العلماء يستنجدون بالذكاء الاصطناعي لمواجهة طفرات كورونا
علي قاسم
“لا ينبغي أن ننظر للروبوت على أنه منافس لنا” هذه نصيحة تاكيو كانيد أستاذ علم الروبوت بجامعة كارنيغي ميلون الأميركية، الذي تابع قائلا “يجدر بنا أن نعتبر الروبوت وسيلة لتعزيز قدراتنا”. لأن الذكاء الاصطناعي حسب كانيد “لا يصاب بالملل، فضلا عن أنه قادر على اكتشاف الأنماط، وفي هذه المهارة يتفوق على قدرات البشر بمراحل”.
الصورة النمطية عند أغلب الناس حول الذكاء الاصطناعي ارتبطت بروبوتات ظهرت في أفلام الخيال العلمي؛ كائنات آلية إن لم تعلن الثورة علينا وتبيدنا فإنها ستسرق وظائفنا وتحيلنا إلى البطالة، إضافة إلى ذلك قد تستخدمها الشركات الكبرى والحكومات للتجسس علينا.
هناك جزء من الحقيقة في هذه الصورة، ولكنها بالتأكيد ليست الحقيقة كاملة؛ والخيار سيبقى متروكا في النهاية بيد البشر، والطريقة التي يقررون بها استخدام هذه التكنولوجيا. وإن كان هناك كثيرون يميلون للتشاؤم وينجذبون لنظرية المؤامرة، إلا أن هناك أعدادا أكبر من المتفائلين بينهم علماء وخبراء اجتماع يؤكدون أن الذكاء الاصطناعي سيحل الكثير من المشاكل التي نواجهها، بل لن نستطيع حل هذا المشاكل إلا بمساعدة من الذكاء الاصطناعي والخوارزميات وجيش من الروبوتات التي قد تأخذ شكل البشر أو هي مجرد أدوات دقيقة بالكاد ترى بالعين المجردة.
نظرية المؤامرة
من أبرز العلماء في معسكر المتفائلين، بيل غيتس، الذي كان ضحية لحرب شنها عليه أصحاب نظرية المؤامرة.
قبل انتشار وباء كورونا ببضعة أشهر كان غيتس الملياردير مؤسس شركة مايكروسوفت من أوائل من توقع انتشار وباء قاتل في العالم. وبعد انتشار الوباء خصص ما لا يقل عن 1.75 مليار دولار من خلال مؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية للجهود العالمية لمكافحته، ويشمل هذا المبلغ دعما لبعض الشركات المصنعة للقاحات ووسائل التشخيص والعلاجات المحتملة.
ومنذ بدأت الجائحة انتشرت على الإنترنت الكثير من الإشاعات التي غذت انتشار المعلومات الخاطئة عن فايروس كورونا وأصوله ودوافع العاملين في مكافحته.
ومن هذه المزاعم أن غيتس اختلق الجائحة لمحاولة السيطرة على الناس، وإنه يريد أن يحقق مكاسب من انتشار الفايروس، ويريد استخدام اللقاحات في زرع رقائق إلكترونية في أجساد الناس يمكن تتبعها.
ويتساءل غيتس “هل يصدق الناس فعلا هذا الكلام؟”. وقال غيتس إن “ملايين المرات التي ترددت فيها على الإنترنت نظريات المؤامرة الجنونية عنّي وعن أنتوني فاوتشي (أكبر خبراء الأمراض المعدية بالولايات المتحدة) ترسخت لأسباب منها اقتران الجائحة الفايروسية المخيفة بتنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي”.
ويعتبر غيتس من أكثر المتحمّسين للدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في مكافحة الأمراض المعدية والحد من انتشار الأوبئة. وكانت شركة مايكروسوفت سباقة بتشجيع من غيتس نفسه على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في مكافحة الأوبئة ووقف انتشارها فقد سبق لها أن طورت نظاما تقنيا يستعين بطائرات دون طيار لتحديد المواقع التي يمكن أن تنتشر فيها الأمراض التي تنقلها الحشرات.
وأثبتت التجارب التي أجريت في ماليزيا والبرازيل أن دقة هذا النظام في التنبؤ بتفشي الوباء بلغت نحو 88 في المئة قبل نحو ثلاثة شهور من بداية انتشاره.
وتشير التقديرات إلى أن فايروس حمّى الضنك الذي ينقله البعوض وحده يصيب 390 مليون شخص سنويا في 128 دولة.
ويقول رينير مالول مهندس كمبيوتر من جمهورية الدومينيكان أحد البلدان التي يتفشى فيها فايروس زيكا “هذه البعوضة الصغيرة لديها قدرة عجيبة على نشر الأمراض”. وقد توصل مالول، بمساعدة ديسي راجا، طبيب من ماليزيا أحد البلدان المعرضة لخطر انتشار الفايروس أيضا، إلى خوارزميات التعلم الذاتي التي تتنبأ بالأماكن الأكثر عرضة لخطر انتشار الفايروس.
ويجمع النظام الذي وضعه مالول وراجا وأطلقا عليه “الذكاء الاصطناعي في مجال علم الأوبئة” المعلومات عن زمن كل حالة إصابة جديدة بفايروس حمّى الضنك وموقعها، وفقا للتقارير التي تودعها المستشفيات في مختلف البلدان، إلى جانب 247 عاملا آخر يصفها مالول بأنها “العوامل التي تحدد الطريقة التي ستنتشر بها البعوضة”، مثل اتجاه الريح والرطوبة ودرجة الحرارة والكثافة السكانية.
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنّ الذكاء الاصطناعي يسهّل التعامل مع المشكلات المعقدة في مختلف التخصصات، ويمنح القدرة على معالجة تدفقات البيانات الغزيرة من مصادرها المختلفة، إذ يستخدمه الباحثون كأداةٍ لحل ما لم يكن ممكناً من دونه سابقاً، ما يجعل القطاع الطبي أحد المجالات الواعدة لنمو تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
عند الحديث عن الممارسة الطبية السريرية لا يكتسب الطبيب خبرته إلا بعد تحليله لعددٍ كبيرٍ جداً من الحالات وقضائه لسنواتٍ طويلة في التعلّم والتدريب ليصبح قادراً على تحديد العوامل التي تساعده على تضييق مساحة التشخيصات المحتملة، وذلك من خلال بعض الأدلة من التاريخ الطبي للمريض ونتائج الفحوصات المخبرية والأشعة. وبفضل الذكاء الاصطناعي يمكن للأنظمة الذكية أن تتدرب بطريقة مماثلة ولكن بدقة وسرعة تفوقان بكثير دقة وسرعة البشر.
نجاح صيني
حتى الآن، ثبت أنّ علوم البيانات والتعلم الآلي سلاحان من أكثر الأسلحة فعالية في مكافحة انتشار فايروس كورونا، وهما السلاحان اللذان ساعدا الصين في كبح انتشار الفايروس خلال وقت قياسي.
وكانت منصة “BlueDot” التي تعتمد في عملها على الذكاء الاصطناعي لتتتبع انتشار الأمراض المعدية في جميع أنحاء العالم، قد أعلنت قبل نهاية عام 2019، عن ظهور مجموعة من حالات التهاب رئوي غير عادية تحدث حول سوق في مدينة ووهان بالصين. وبعد ذلك الإعلان بتسعة أيام أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانًا أعلنت فيه اكتشاف فايروس جديد أصيب به شخص في المستشفى في ووهان تسبب له في التهاب رئوي حاد.
تستخدم منصة “بلودوت” خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي للاطلاع على المعلومات من مئات المصادر للاكتشاف المبكر عن الأوبئة والتنبؤ بانتشارها. وتقوم الخوارزمية بمتابعة تقارير الأخبار بجميع اللغات تقريبًا، وشبكات الأمراض الحيوانية والنباتية، وبيانات المناخ من الأقمار الصناعية، والإعلانات الرسمية لإصدار تحذيرات سابقة لتجنب المناطق المعرضة لانتشار الفايروس.
وبمجرد الإعلان عن ظهور فايروس كورونا المستجد؛ تتبعت المنصة بيانات تذاكر الطيران العالمية التي يمكن أن تساعد في التنبؤ بمسار وتوقيت تنقل السكان المصابين بعد ذلك. وبالفعل استطاعت أن تتنبأ بشكل صحيح بأن الفايروس سينتقل من ووهان إلى بانكوك وسيول وتايبيه وطوكيو في الأيام التالية لظهوره.
وتوظف الشركة العشرات من الخبراء المتخصصين في مجموعة من التخصصات من ضمنها: أنظمة المعلومات الجغرافية، والتحليلات المكانية، وتصور البيانات، وعلوم الحاسوب، بالإضافة إلى خبراء في الأمراض المعدية، والطب الاستوائي، والصحة العامة.
ويقوم هؤلاء الخبراء بفلترة البيانات الآلية، وتولي مهمة التحليل الأخير للبيانات؛ ليتحقق علماء الأوبئة من أن الاستنتاجات منطقية من وجهة نظر علمية، ثم تُرسل التقارير إلى الحكومة وقطاع الأعمال والصحة العامة.
ويستخدم نظام ذكاء اصطناعي آخر طورته شركة “بايدو” الصينية كاميرات تعتمد على الرؤية الرقمية، وأجهزة استشعار بالأشعة تحت الحمراء للتنبؤ بدرجات حرارة الأشخاص في المناطق العامة. ويمكن للنظام فحص ما يصل إلى 200 شخص في الدقيقة الواحدة، واكتشاف درجة حرارتهم في نطاق 0.5 درجة مئوية، حيث يشير النظام إلى أيّ شخص لديه درجة حرارة أعلى من 37.3 درجة، وجرى استخدام النظام في محطات سكك الحديد في بكين.
وطورت شركة “علي بابا” الصينية أيضًا نظام ذكاء اصطناعي يمكنه الكشف عن الفايروس في التصوير المقطعي للصدر. ووفقًا للباحثين الذين شاركوا بتطوير النظام فإنه يتمتع بدقة تصل إلى 96 في المئة، وقد دُرّب على بيانات من 5000 حالة مصابة بالفايروس، وأمكن باستخدامه إجراء الاختبار في 20 ثانية بدلاً من 15 دقيقة يستغرقها خبير بشري لتشخيص المريض. ويمكن للنظام تحديد الفرق بين فايروس كورونا المستجد (COVID-19) والالتهاب الرئوي العادي بسرعة، وتعتمد نحو 100 مستشفى في الصين على هذا النظام الآن.
علاج عن بعد
تتمثل إحدى الطرق الرئيسية لمنع انتشار فايروس كورونا في تقليل الاتصال بين المرضى المصابين والأشخاص المتعافين. ولهذه الغاية بذلت العديد من الشركات والمنظمات جهودًا لأتمتة بعض الإجراءات التي كانت تتطلب من العاملين الصحيين والطاقم الطبي التفاعل مع المرضى.
وتستخدم الشركات الصينية الطائرات دون طيار والروبوتات لتسليم الطلبات دون تلامس، ولرش المطهرات في المناطق العامة مما يساعد في تقليل خطر العدوى.
وتقوم روبوتات بفحص الأشخاص للكشف عن ارتفاع درجات الحرارة وأعراض كوفيد – 19 الأخرى. كما تقدم الغذاء والدواء للمرضى داخل المستشفيات، وتقوم بتعقيم الغرف لتفادي الحاجة إلى وجود فريق التمريض، في حين تقوم روبوتات أخرى بطهي الأرز دون إشراف بشري، مما يقلل من عدد الموظفين اللازمين لتشغيل المنشأة.
واستخدم الأطباء في مدينة سياتل الأميركية الروبوتات للتواصل مع المرضى وعلاجهم عن بُعد لتقليل تعرض الطاقم الطبي للأشخاص المصابين.
منذ البداية أدرك الخبراء أن الحرب على فايروس كورونا الجديد لن تنتهي حتى يتم تطوير لقاح يمكنه تحصين الجميع ضد الفايروس. لكن، كما هو معروف، تطوير عقاقير وأدوية جديدة عملية طويلة ومكلفة للغاية، قد تستغرق بضع سنوات من التجارب والفحوصات. وهذا الإطار الزمني لا يتناسب مع انتشار فايروس كورونا بوتيرة متسارعة.
وقد يكون من حسن حظ البشرية أن تقنيات الذكاء الاصطناعي بلغت مرحلة من التقدم سنحت للخبراء بتسريع عملية تطوير اللقاحات. وكان مختبر “ديب مايند” لأبحاث الذكاء الاصطناعي – الذي استحوذت عليه غوغل عام 2014 – سباقا في الإعلان عن استخدام التعلم العميق للعثور على معلومات جديدة حول بنية البروتينات المرتبطة بفايروس كوفيد – 19. وتم جمع أدلة مهمة لصيغة لقاح فعال من خلال فهم تراكيب بروتين الفايروس، ويعتبر المختبر واحدا من منظمات عديدة شاركت في السباق لإيجاد لقاح فعال لفايروس كورونا.
كما طرحت شركة “أي .بي .إم” مبادرة لزيادة الوصول إلى الحوسبة الفائقة أمام المجموعات البحثية التي عملت على إيجاد لقاح لفايروس كورونا المستجد.
واستخدم الباحثون الحاسب العملاق التابع للشركة لفحص ثمانية آلاف مركب، هي الأكثر احتمالًا لربط البروتين الرئيس في فايروس كورونا ومنعه من الالتصاق بالخلايا المضيفة في جسم الإنسان، وحدّدوا 77 مركبًا أمكن اختبارها تجريبيًا، ساعدت على تطوير لقاح فعال للفايروس. في عملية كان إنجازها سيستغرق، دون هذه التقنيات، أعواما طويلة.
إنجاز مذهل
مؤخرا كشف باحثون في جامعة جنوب كاليفورنيا (USC) عن طريقة فعالة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لإنتاج لقاحات جديدة محتملة ضد كوفيد – 19 في غضون دقائق أو حتى ثوان.
ويمكن أن تمثل هذه الطريقة بحسب الخبراء نقطة تحول رئيسة في حرب المعلومات ضد فايروس كورونا وطفراته العديدة الفتاكة التي بدأت في الظهور مؤخرا.
واستفاد الفريق المشارك في الأبحاث من توظيف الذكاء الاصطناعي لتسريع تحليل اللقاح، الذي يمكن تكييفه بسرعة وسهولة لتحليل الطفرات الفايروسية نفسها.
وباستخدام خوارزمية التعلم الآلي، يمكن للنموذج أن يكمل دورات تصميم اللقاح في غضون دقائق أو حتى ثوان، في إنجاز استغرق قبل الوباء شهورا إن لم يكن سنوات، ما يوضح مدى التقدم الذي حققته البشرية خلال عام ونصف تقريبا من أول ظهور للفايروس.
وقال بول بوغدان الأستاذ المساعد في الهندسة الكهربائية وهندسة الكمبيوتر في جامعة جنوب كاليفورنيا “إن إطار عمل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يوفر اللقاحات المرشحة في غضون ثوان ونقلها إلى التجارب السريرية بسرعة لتحقيق العلاجات الطبية الوقائية دون المساس بمعايير السلامة”.
ويمكن للنظام التحقق من جودة اللقاحات في أقل من ساعة، في إنجاز مذهل وواعد حقا، جاء في توقيت مناسب تزايد فيه قلق الأوساط الطبية من أن المتغيرات والطفرات الجديدة للفايروس قد تكون مقاومة للجيل الحالي من اللقاحات.
ويعتبر فايروس كورونا المستجد واحدًا من أشد الأمراض المعدية التي أصابت كوكب الأرض خلال عقود، وعلى الرغم من أنه ليس الأكثر فتكًا إلا أنه الأكثر انتشارًا، حيث وصل إلى أكثر من 189 بلدًا خلال ثلاثة أشهر منذ اكتشاف الفايروس لأول مرة في الصين.
ووصل عدد الحالات المصابة المؤكدة حتى صباح يوم الخميس الـ29من أبريل 2021 إلى 150.256.873 حالة، كما أودى بحياة أكثر من 3.164.577 شخصا، وفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية.