اقتصاد القصص الشخصية.. لماذا أصبح الجميع يبيع تجربته؟
اقتصاد القصص الشخصية.. لماذا أصبح الجميع يبيع تجربته؟
AI بالعربي – خاص
في عالم يتسارع فيه كل شيء، لم تعد البيانات أو المنتجات وحدها هي المحرك الاقتصادي، بل أصبحت القصص الشخصية نفسها سلعة تُباع وتُستهلك. من المؤثرين على المنصات الرقمية إلى رواد الأعمال في برامج التمويل الجماعي، نشهد اليوم صعود ما يمكن تسميته بـ “اقتصاد القصص الشخصية” حيث تتحوّل التجربة الفردية إلى مورد اقتصادي فعال يُستخدم لجذب الدعم، بناء الثقة، وتعزيز العلامة الشخصية.
تعتمد هذه الظاهرة على قوة الرواية الذاتية في التأثير والإقناع. فبدلًا من استعراض المهارات أو عرض إنجازات مجردة، يقوم الأفراد بسرد معاناتهم، تحدياتهم، أو لحظات التحول المفصلية التي عاشوها، ليبنوا حولها مشروعًا أو منتجًا أو حملة إعلامية. هذا الشكل من التعبير لا يكتفي بالوصف، بل يخلق رابطًا عاطفيًا مباشرًا مع الجمهور، ويحوّل الاستهلاك الرقمي إلى فعل مشترك من “الاستماع” و”التعاطف”.
ويعود هذا التحول جزئيًا إلى تراجع الثقة في الخطاب الرسمي أو المؤسساتي، وازدياد الحاجة إلى ما هو “أصيل”، “غير مصقول”، و”يشبهنا”. لذا، فإن القصة التي يرويها شخص عادي، بكلمات بسيطة، قد تصبح أكثر تأثيرًا من حملة تسويقية بملايين الدولارات، لا لشيء إلا لأنها تمس وجدان الجمهور وتخلق انتماءً وجدانيًا.
مع تطور المنصات الرقمية، بات بالإمكان توثيق كل لحظة من الحياة وتحويلها إلى مادة قابلة للتسويق. الأمومة، المرض، الهجرة، الفشل المهني، الانفصال، أو حتى الحياة اليومية البسيطة، كل هذه تحوّلت إلى قصص قابلة للنشر، وربما للربح. بل إن بعض الأفراد باتوا يعيدون ترتيب حياتهم لتناسب السرد القصصي المطلوب، في مفارقة تكشف مدى اختلاط الواقع بالعرض.
ومع أن هذه الظاهرة أطلقت العنان لأصوات كانت مهمشة في السابق، وأسهمت في تمكين مجتمعات بأكملها عبر تجارب واقعية، إلا أنها تطرح أيضًا تساؤلات أخلاقية معقدة: هل نبالغ في استهلاك معاناة الآخرين؟ هل أصبح الألم الشخصي وسيلة للترقي الاجتماعي؟ وهل يُعاد إنتاج السرديات الفردية بشكل يكرس قوالب نمطية للنجاح أو الصدمة أو “الرحلة الملهمة”؟
كما أن المنصات الرقمية التي تحتضن هذه القصص غالبًا ما تشجع على أنماط معينة من الرواية، تلك التي تحقّق انتشارًا سريعًا وتفاعلات عالية. وهنا تصبح القصص موجهة أكثر نحو السوق، لا نحو الصدق. بل أحيانًا تُختصر معانٍ حياتية معقدة في عبارات سريعة قابلة للمشاركة، مما يفقدها بعضًا من عمقها الإنساني.
ومع ذلك، فإن اقتصاد القصص الشخصية، كواقع جديد، لا يمكن إنكاره. بل قد يكون فرصة لإعادة التفكير في القيمة: ليس فقط كرقم مالي، بل كأثر إنساني حقيقي. في هذا الاقتصاد، لم تعد التجربة تُخزّن في الذاكرة فقط، بل تُعرض وتُستثمر وتُحصد منها ثقة وعلاقات وربما مستقبل مهني.
فهل نحن أمام مرحلة جديدة تُعرّف فيها القيمة عبر القصص لا الشهادات؟ وهل ستصبح القدرة على رواية الذات شرطًا للظهور والبقاء في المجال العام؟ تلك أسئلة تفتح نقاشًا لا يزال في بدايته.
اقرأ أيضًا: “إزالة التحيز اللاواعي” من الشبكات التوليدية العميقة.. حلول متقدمة لفهم النمطية