قتل المخاوف.. الذكاء الاصطناعي وطبيعة الوظائف
AI بالعربي – متابعات
لقد صارت فكرة إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر مسألة مقتولة بحثًا، على الرغم من وجود دلائل تدعم هذا الرأي. ومع ذلك، يظل الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، تفتح آفاقًا ورؤى جديدة لتعزيز الوظائف اليومية المفيدة للمجتمع والحياة. ليست الأداة التوليدية تهديدًا، فنحن البشر من نصنعها، وأنظمتنا هي التي تستخدمها، والمختصون التقنيون هم من يطورونها، والهدف دائمًا هو خدمة الإنسان والمجتمع. لذا، ليس من المنطقي أن تستأجر شخصًا ليقضي عليك.
وبناءً على ما سبق، فإنَّ التغيير من طبيعة الوظائف تظل فكرة هامة وضرورية للغاية؛ فتزداد هذه الضرورة، لطالما استمرَّت الحياة، التي تمتلئ بأحداث لا تتوقف وتيرتها، ووظائف تتجدد بتجدد الأفكار.
قتل المخاوف القديمة
أصبحت المخاوف القديمة من فقدان الوظائف واختفاء العاملين من مجالات العمل مجرد أوهام. فالتاريخ يكرر نفسه، ففي القرن العشرين، ظهرت العديد من التنبؤات بأن الأتمتة ستؤدي إلى بطالة واسعة بين البشر. ومن بين أبرز هذه التوقعات كانت رؤية جون ماينارد كينز، الذي اعتبر أن التكنولوجيا ستقضي على مشكلة الندرة الاقتصادية. في الستينيات، أعرب خبراء، مثل خبير اقتصادي من IBM، عن أن الأتمتة قد تؤدي إلى تقليص ساعات العمل الأسبوعية إلى عشرين ساعة. وفي التسعينيات، دعا جيرمي ريفكين إلى ما أطلق عليه “نهاية العمل” نتيجة لتقدم التكنولوجيا الرقمية. وغالبًا ما تثير هذه التنبؤات مخاوف بشأن فقدان الوظائف وعدم وضوح الفوائد الاقتصادية التي يمكن تحقيقها.
عند مقارنة تلك التنبؤات بالماضي، نجد أن التقدم في الأتمتة والذكاء الاصطناعي اليوم يواجه نفس المخاوف التي أثارتها الثورة الصناعية. في تلك الحقبة، توقع الكثيرون نزوحًا واسعًا للوظائف بسبب التكنولوجيا، في حين رأى آخرون أن تبني التكنولوجيا يعزز المنافسة، ولكنهم لم يتنبؤوا بفوائدها الشاملة على المجتمع. وبينما تتباين آراء الباحثين بشأن تأثير الأتمتة والذكاء الاصطناعي على مستقبل العمل، هناك اتفاق عام على أن التكنولوجيا ستؤدي إلى تغيير كبير في سوق العمل، مع احتمالية فقدان بعض الوظائف وخلق فرص جديدة. المهم هو ضمان توزيع الفوائد الاقتصادية بشكل عادل وتوفير السياسات المناسبة لدعم التحولات الجارية.
تسخير قوة الذكاء الاصطناعي بأمان وسرعة
تتقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي بوتيرة سريعة، ما يفتح آفاقًا واسعة لزيادة الإنتاجية والابتكار في مختلف القطاعات، مثل: التجارة، التصنيع، والرعاية الصحية. ولضمان تحقيق هذه الفوائد بشكل شامل وسريع، يجب تطبيق الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنة ومدروسة.
إنَّ تسخير إمكانيات قوَّة الذكاء الاصطناعي بفعالية يتطلب استعداد القطاعات لاستيعاب التكنولوجيا، خاصة في مجالات مثل التعليم والنقل والصحة، مما يعزز من دور الذكاء الاصطناعي في تحسين حياة الأفراد والمجتمعات، والتي من دونها لا فائدة ولا طائل من هذا التوظيف.
مناقشات سياسة الآلية ومستقبل العمل
مع تقدم الأتمتة والذكاء الاصطناعي، تثار تساؤلات حول مدى تأثيرهما على مستقبل العمل والوظائف وكيف يكون واقع هذا التأثير، وما آثاره المحتملة، وكيفية التفادي لأضراه، وما موقع المجتمع بأسره من هذا التطوُّر.
في حين أن بعض التقديرات تشير إلى أن العديد من الوظائف قد تحل محلها الآلات أو البرامج، تتنبأ دراسات أخرى بإعادة تشكيل سوق العمل من خلال خلق فرص جديدة. تبرز التحديات هنا في كيفية توزيع الفوائد الاقتصادية بشكل عادل، وتوجيه السياسات لضمان أن يكون التحول التكنولوجي إيجابيًا وشاملاً.
إنَّ النقاشات حول تأثير الذكاء الاصطناعي تؤكد الحاجة لتأهيل القوى العاملة لمواكبة التطورات، مع الحفاظ على التوازن بين التقدم التكنولوجي واستقرار سوق العمل.
مُنقذ أحيانًا
في اليابان، تُستخدم التقنية الحديثة لتعويض النقص في القوى العاملة. فقد بدأت مجموعة من الشركات اليابانية، مؤخرًا، في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لسد الفجوات في مجال خدمة العملاء، وذلك لمواجهة أزمة نقص العمالة التي تواجهها البلاد. وقد أثبتت هذه التقنية فعاليتها في التعامل مع المواقف المعقدة، مما ساعد في تحسين تجربة العملاء وتخفيف الضغط عن الموظفين. على سبيل المثال، تستخدم شركة “ريدجلينز” وشركة “أوتوباكس سيفن” الذكاء الاصطناعي المعروف باسم “رايتشل” لتقديم توصيات بالمنتجات بناءً على احتياجات العملاء وطرازات السيارات المتاحة.
إحدى الشركات الأخرى، مثل “كوجير” في طوكيو، تعتمد أيضًا على الذكاء الاصطناعي لتخفيف العبء عن موظفي مبيعات السيارات، حيث يسهم الذكاء الاصطناعي في توجيه التوصيات بشأن قطع الغيار المطلوبة لكل سيارة، مما يسمح للبشر بالتركيز على المهام الأكثر تعقيدًا. وفي هذا السياق، أشار مسؤول في “ريدجلينز” إلى أن الذكاء الاصطناعي يساهم بشكل فعال في تحسين الإنتاجية، رغم الحاجة المستمرة للتدخل البشري في بعض المهام اليدوية مثل استبدال قطع الغيار.
بالإضافة إلى ذلك، بدأت شركات أخرى مثل “أوكي للصناعات الكهربائية” و”كيوشو للسكك الحديدية” في تجربة مساعد ذكاء اصطناعي يتحدث ثلاث لغات (اليابانية، الإنجليزية، الصينية)، لتقديم إرشادات حول المحطات ومساعدة الركاب في عمليات النقل، مما يبرز إمكانيات الذكاء الاصطناعي في تحسين الخدمات العامة.
مخاوف تكمن داخلنا وتحديات نتجاوزها
إن المخاوف الطبيعية والواقعية الناتجة عن تطبيق الوظائف القائمة على الذكاء الاصطناعي لا تتعلق فقط بفقدان الوظائف أو الاستغناء عن العمالة، بل تكمن في وجود فئات معينة تتأثر بشكل أكبر من تبني هذه التقنية. هذه المخاوف تؤدي إلى ظهور تحديات متعددة تواجه المجتمع، خاصة فيما يتعلق بالشعور المتزايد بالإخفاق نتيجة تأثيرات التحولات التكنولوجية. فرغم الفوائد التي تجنيها قطاعات مثل التصنيع والتجارة الإلكترونية من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فإن هذه التحولات قد تترك خلفها مجموعات من العمال الذين يفتقرون إلى المهارات اللازمة للتكيف مع بيئات العمل المتطورة.
يضاف إلى ما سبق، أن الإخفاق في توفير التدريب المناسب والدعم للشرائح الأكثر تضررًا يمكن أن يعزز من مشاعر الإحباط والقلق لدى هؤلاء الأفراد، مما يهدد استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي. لذا، يجب على صانعي السياسات والمسؤولين عن قطاع التعليم، العمل على تصميم برامج تدريبية شاملة تُعنى بتأهيل القوى العاملة لمواجهة التحديات الجديدة وتجاوز آثار الفشل الناتجة عن التحولات السريعة في التكنولوجيا. في نهاية المطاف، يتطلب تحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي ورخاء المجتمع مزيدًا من الجهود المشتركة لضمان عدم ترك أي شريحة وراء ركب التقدُّم.
ولكن كيف يمكن تجاوز المخاوف؟
السبيل الوحيد لتجاوز هذه المخاوف، بحسب ورقة عمل بلجيكية تم تقديمها واعتمادها في أوساط تكنولوجية في الاتحاد الأوروبي، بمدينة بروكسيل عام 2022، هو التعرُّف على الفارق بين:
“الأتمتة“، القائمة على تطوير واعتماد تقنيات جديدة تتيح استبدال رأس المال بالعمالة في مجموعة من المهام، فيصبح نتاجه لصالح التقنية التي تحل محلّ الموظَّف، من ناحية، وحوكمة الذكاء الصطناعي أو ما يُعرف باسم “الإدارة الخوارزمية (AM)“، وهي خوارزميات برمجية تقوم بأداء وظائف إدارية، أهدافها:
- تحديد الأهداف: تحديد الرؤية أو الأهداف للمنظمة.
- تحديد المهام: تحديد تنظيم العمل اللازم لتحقيق الأهداف، بما في ذلك تقسيم المهام وكيفية تقسيم العملية الكاملة إلى مهام فردية.
- تخصيص المهام: كيفية دمج المهام الفردية وتخصيصها للأدوار.
- تنسيق المهام: كيفية تنسيق المهام عبر الأدوار.
- تحديد التخطيط: تحديد ترتيب وتوقيت المهام، لضمان توفر جميع الموارد المادية والبشرية في الوقت والمكان المناسبين.
- تحفيز السلوك: ضمان أن يتصرف الجميع بطريقة تتماشى مع المواصفات أعلاه (بكل من المعنى الرقابي والتحفيزي).
- التوظيف: شغل جميع الأدوار بالأشخاص وضمان أن يكون لدى الأشخاص المهارات المناسبة لهذه الأدوار.
ختامًا، تبقى طبائع الوظائف مسألة مرهونة بوضع الاستراتيجيات الحكيمة، وصنع سياسات تديرها، وتطبيق آليات تنفِّذ توصيات تتبع مجال الحوكمة التقنية.