ذكاء اصطناعي مكلف
محمد كركوتي
منذ بداية التحول الإلكتروني الهائل، الذي تتسارع عجلته بصورة مذهلة، ظهرت معه مباشرة التهديدات الإلكترونية الخبيثة، المعروفة بـ”الهجمات السيبرانية”. وهذه الأخيرة تتطور مع كل قفزة في هذا الميدان، الذي بات الذكاء الاصطناعي يشكل المحور الرئيس له، مع التسارع أيضاً في شكل وطبيعة تحولاته، بما في ذلك التطور المتلاحق في التقنيات الداعمة له. المسألة، ليست منحصرة مثلاً فقط في قدرة هذا “الذكاء” على تدمير الوظائف في كل القطاعات تقريباً، بما في ذلك المجالات الإبداعية، أو التضليل، بل الإسهام المباشر في رفع “فواتير” الهجمات السيبرانية على المستوى العالمي. لا توجد جهة محصنة من هذه الهجمات التي تتطور لتتماشى مع كل خطوة في المشهد الإلكتروني العام، علماً بأن الحراك لمواجهة هذا النوع من الهجمات لا يتوقف، ويخضع هو نفسه لمتطلبات التطور.
لا توجد جهة في العالم اعترفت بقدراتها على صد الهجمات السيبرانية كلها، الكبيرة منها أو الصغيرة. فكلما كان هناك تحول متقدم ما، تظهر ثغرات في القدرات المضادة له. ومن هنا، أوجد الذكاء الاصطناعي كثيرا من الثغرات بالرغم من الحراك النشط المشار إليه، وبقدر اتساع رقعته، بقدر ارتفاع التكلفة الباهظة الناجمة عن الهجمات السيبرانية بكل أشكالها. فالفضاء المفتوح حتى في ظل الرقابة عليه، يعد بيئة مثالية لهذا النوع من الهجمات، التي بلغت حدوداً لم تكن في الحسبان حتى وقت قريب. ولأن الأمر كذلك، فقد بات تخصيص الميزانيات في هذه المواجهة، الحجر الأساس لكل الجهات، من الحكومات إلى الجامعات والمصارف والأسواق والشركات بكل أحجامها، وحتى المستشفيات ودور الرعاية، والموانئ والمطارات إلى آخر السلسلة.
تكاليف الهجمات السيبرانية لم تكن منخفضة قبل انطلاق زمن الذكاء الاصطناعي، بل كبلت كثيراً من المؤسسات حول العالم، لكنها زادت التكلفة بعد هذا التحول المتسارع إلى مستويات مرتفعة للغاية. في العام الماضي قدرت تكلفة الهجمات عالمياً، بنحو 8 تريليونات دولار. وبحسب توقعات شركة الأبحاث “سايبرسيكيوريتي فنتشورز”، قد تصل إلى 9.5 تريليون دولار بحلول نهاية العام الجاري. وفي ظل التقدم الكبير الذي حدث على صعيد الذكاء الاصطناعي في العامين الماضيين، ومواصلة ازدهاره من المرجح أن تصل التكلفة المشار إليها إلى 10.5 تريليون دولار في 2025 بزيادة 11 %. استخدام الذكاء الاصطناعي يمنح الساعين إلى القرصنة والسرقة والاحتيال والخروقات مساحة تتسع يوماً بعد يوم، لتنفيذ مخططاتهم.
الاستطلاعات التي تجرى بصورة دورية مع أصحاب الأعمال ومديري الشركات والمؤسسات المختلفة، تظهر تصاعداً كبيراً في أوساط هؤلاء للقلق من جراء الهجمات السيبرانية التي يتعرضون لها أو قد تنال منهم في مرحلة ما. والمسألة لا تتعلق فقط بقدرة المهاجمين على القيام بالتعاملات الاحتيالية أو سرقة الهويات أو خرق البيانات الخاصة بالأفراد والمؤسسات، بل تشمل أيضاً، وبالدرجة الأولى الخسائر المالية التي تتكبدها الجهات التي تتعرض للهجوم، فهي مضطرة لدفع التعويضات للمتضررين، فضلا عن الخسائر الناجمة عن تراجع سمعتها، على صعيد حماية بيانات عملائها، وحتى العاملين فيها. ليست هناك حلول متوافرة في الوقت الراهن للحد من الأضرار التي تتركها الهجمات السيبرانية، سواء بفعل انتشار الذكاء الاصطناعي أو غير ذلك.
القضية ستبقى ضمن نطاق التسابق بين الجهات المهاجمة وتلك التي تتعرض للهجمات. وهذا بحد ذاته يتطلب إنفاقاً مالياً كبيراً، وأحياناً غير متوقع. لأنه يتوجب على المؤسسات التي تسعى إلى تحصين كياناتها وبياناتها وخدماتها، أن تطور الأدوات والتقنيات اللازمة في عملية الدفاع، وهذا قد يؤثر في الماليات العامة لبعضها أو حتى لأغلبها.
المصدر: الاقتصادية