الذكاء الاصطناعي.. بين الإقدام والإحجام

32

أ.د. سعد علي الحاج بكري

تختلف آراء الناس في مختلف القضايا، صغيرها وكبيرها، بين القبول والرفض، وربما اللامبالاة أيضا. كل ذلك في إطار مقياس يراوح بين شدة في القبول وشدة في الرفض، وما بينهما من ميول بمستويات مختلفة ما بين هذا الطرف وذاك. تكتسب مثل هذه الآراء أهمية كبيرة، يتعلق مداها بأهمية القضية المطروحة من جهة، وأهمية أصحاب الرأي فيها من جهة أخرى. وتنبع أهمية أصحاب الرأي هذه من مدى تأثيرهم في القضية، وقدرتهم على تفعيلها على أرض الواقع. ومن أمثلة أصحاب التأثير في قضايا الحياة المختلفة، مثل قضية الذكاء الاصطناعي، قادة الشركات الكبرى، وأصحاب القدرة على الاستثمار، فضلا عن قادة التخطيط الوطني في الدول المختلفة، وربما قادة الرأي في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت.

تتركز أهمية قضية الذكاء الاصطناعي، بصورة خاصة في آفاق الخدمات المستقبلية الواعدة لهذا الذكاء، على مستوى العالم بأسره. ولعل هذه الأهمية تزيد على أهمية وسائل النقل، كالقطارات والسيارات والطائرات، التي غيرت، عندما ظهرت، من طبيعة حياة الإنسان من حيث الارتقاء بقدرته على التجوال في أرض الله الواسعة. فأهمية الذكاء الاصطناعي تأتي من تغييره لطبيعة الحياة أيضا، ولكن من ناحية خاصة ترتبط بالارتقاء بذكاء الإنسان وقدرته على التعامل مع المعلومات، وبالتالي مع مختلف شؤون الحياة، بما يشمل اتخاذ القرارات السليمة بشأنها، وإحالة الأعمال الروتينية البسيطة إلى الآلة تنفذها بدلا عنه.

تختلف الآراء في قضية الذكاء الاصطناعي على أساس ما يحدثه هذا الذكاء على أرض الواقع من أثر، وتبعا أيضا للوعي بشأن ما يمكن أن يحدثه في المستقبل. ولهذه الآراء دوافع مختلفة، تتجه بعضها نحو الإقدام على تفعيل مسيرة الذكاء الاصطناعي، من أجل فوائد اقتصادية ترتبط بإنتاج وسائل هذا الذكاء، وتتعلق أيضا باستخدامها. ثم إن لها مشكلات تتجه بها نحو الإحجام عن تفعيل هذا الذكاء، خوفا من إحلال الآلة محل الإنسان، وخوفا أيضا من الاستخدامات الخبيثة اللاأخلاقية لوسائله، فضلا عن مسألة تخوف البعض من تفوق الذكاء الاصطناعي على ذكاء الإنسان وقدرته على السيطرة على شؤون الحياة، كما يطرح “جيفري هينتون” الملقب بالأب الروحي للذكاء الاصطناعي.

يقدم ما سيأتي من هذا المقال أسبابا مختلفة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي ترتبط بطرفين مختلفين. طرف إيجابي يتطلع إلى الإقدام والتوجه نحو الاستزادة من الذكاء الاصطناعي من جهة، وطرف سلبي يفضل الإحجام والتوجه نحو الحد منه الابتعاد عنه من جهة أخرى. سنستعين، في هذا الطرح، بمصادر مختلفة حول الموضوع، على رأسها ما ورد بهذا الشأن في تقرير “دليل الذكاء الاصطناعي 2023” الصادر عن جامعة ستانفورد الشهيرة، وهو التقرير الذي كان أيضا مصدرا للإحصائيات حديثة حول الذكاء الاصطناعي في أمريكا وفي العالم، استفادت منه المقالات السابقة في طرحها للجوانب المختلفة لهذا الذكاء.

ترتبط أسباب التعامل مع الذكاء الاصطناعي، سواء في طرفها السلبي أو في طرفها الإيجابي، بثلاثة محاور رئيسة: محور اقتصادي، وآخر اجتماعي، وثالث أمني. إذا نظرنا إلى المحور الاقتصادي لوجدنا ثلاثة عوامل رئيسة: عامل الوظائف، وعامل الأداء، ثم عامل مسيرة التطور. يقول الطرف السلبي بشأن الوظائف: إن الذكاء الاصطناعي قاتل لكثير من الوظائف. ويجيب الطرف الإيجابي بأنه مولد أيضا لوظائف جديدة ترتبط بتفعيل ذكاء الإنسان، وستزداد مثل هذه الوظائف مع التوسع الذي تشهده تقنيات الذكاء الاصطناعي في المستقبل. يضيف الطرف الإيجابي إلى ذلك أيضا أن الوظائف التي يتم الاستغناء عنها لم تكن أصلا تليق بعقل الإنسان وقدراته لأنها محصورة فقط بمهمات روتينية محدودة.

فيما يخص الأداء يقول الطرف السلبي: إن الاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي ربما يتسبب في أعطال تقنية أكثر تقود إلى توقف العمل وانخفاض الأداء. ويجيب الطرف الإيجابي بأن تقنيات هذا الذكاء تؤدي إلى توفير في زمن أداء المهمات المختلفة وتحسين الأداء، فضلا أيضا عن أن نضج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع الزمن سيقود إلى الحد من الأعطال المحتملة. أما بشأن عامل مسيرة التطور، فيقول الطرف السلبي: إن التطور التقني قائم في المجالات المختلفة، ولا حاجة للذكاء الاصطناعي. ويجيب الطرف الإيجابي، بأن الذكاء الاصطناعي كتقنية ذكية ناشئة تتمتع بآفاق مستقبلية واسعة من المنتجات المتجددة والتطبيقات الجديدة التي تفتح آفاقا اقتصادية غير مسبوقة.

وننتقل إلى المحور الاجتماعي للذكاء الاصطناعي لنجد فيه عاملين رئيسين هما: عامل التواصل الاجتماعي، وعامل السلوك الأخلاقي. يقول الطرف السلبي في عامل التواصل: إن الذكاء الاصطناعي يحد من هذا التواصل، ويرد الطرف الإيجابي بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز التواصل لأنه يقدم إمكانات جذابة يمكن أن تتيح شراكة اجتماعية مفيدة بين المهتمين. وفي عامل السلوك الأخلاقي، يقول الطرف السلبي: إنه قد يحلو لبعض مطوري وسائل الذكاء الاصطناعي أن ينقلوا إليها ميولهم التي تبتعد عن الموضوعية وحقوق الإنسان، ويرد الطرف الإيجابي بأن حوكمة الذكاء الاصطناعي تمنع مثل هذا السلوك. وكان لنا في مقال سابق نشر في 7 ديسمبر 2023، حديث عن أخلاقيات هذا الذكاء.

نصل إلى المحور الأمني الذي يتضمن عاملين رئيسين: عامل يرتبط بتنفيذ المهمات التي تحمل قدرا كبيرا من المخاطرة، إضافة إلى أمن العالم السيبراني. فالذكاء الاصطناعي يقدم روبوتات ذكية للمهمات الصعبة وذلك أمر حاسم في مصلحة الطرف الإيجابي. أما بشأن الأمن السيبراني، فيقول الطرف السلبي باحتمال كون هذا الذكاء وسيلة لمخترقي هذا الأمن، ويقول الطرف الإيجابي في المقابل: إن هذا الذكاء هو وسيلة أيضا للحماية وصد الاختراقات المحتملة.

ليس في هذا المقال كل شيء عن أسباب الإقدام على الذكاء الاصطناعي، أو الإحجام عنه، بل إنه نظرة عامة تحاول بيان شؤون الموضوع، والتوجهات المختلفة بشأنه. وقد تتأثر مسيرة تطور هذا الذكاء بين رأي وآخر فيما سيأتي من الزمن، لكن المحصلة تبدو باتجاه المضي قدما إلى الأمام، وهذا ما علينا الاستعداد له، والجاهزية للتعامل الفعال معه.

المصدر: الاقتصادية

اترك رد

Your email address will not be published.