الذكاء الاصطناعي شر -أو خير- لا بد منه
أوس الحربش
ها نحن يزج بنا مجددًا في عصر جديد قد يغير كل ما عهدناه دون إذن منا أو سابق إنذار. تساءلت إن كانت رهبة أصابتني وغيري آنفًا من عصر الذكاء الاصطناعي مجرد ارتياب من المجهول أم خشية واقعية لها ما يبررها. أزعم ولا أجزم أنها اللاحقة بعد قراءة مستفيضة وبحث عميق. اكتشفت بعد تأمل بأن جوهر رهبتي ليس الآلة بل الإنسان. هو قلق يكمن في تطويع القوى الخارقة بيد الإنسان، فنحن منذ الأزل لا نخشى سوى أنفسنا والميول الشريرة التي قد تنفجر إن أتيحت لها الفرصة. لفهم سبب أي شعور، لا بد من التحليل العلمي المجرد من العاطفة لمكامنه وأسبابه. والمتقصي للأسباب في الإعلام الرسمي والشعبي سيجد مشوشات سطحية لا تلمس جذر المسألة. هموم العامة في القضية تتمحور في الآتي:
استعاضة سوق العمل بالآلة بدل الإنسان.
تعطيل الإبداع الإنساني لصالح إبداع الآلة.
هزول الموهبة البشرية وفتور الإحساس الإنساني المترتب على إدمان الآلة.
رغم صدق هذه المكونات، يدرك المتفحص للتاريخ وطبيعة تطور البشر أن بعضها مبالغ بأثره والآخر حتمي وسالف عبر التاريخ. سوق العمل تغيرت في اعتمادها على العنصر البشري من جسدي إلي عقلي وستتحول من اعتماد عقلي إلى إبداعي. نجد في انتقال الزراعة من العامل إلى الحيوان ثم الآلة مثال على أزل التحور هذا. أما بالنسبة للإبداع فلا أخال الآلة تجاري الإبداع الإنساني. الآلة آسنة في ما يتعلق باستحضار الجديد من اللاشيء، أما الإبداع الإنساني فلا يعرف حدوداً ويأتي بالجديد من اللاشيء دوماً. أما في ما يتعلق بالمحور الثالث فإن القدرات الإنسانية تتحور بيولوجياً حسب متطلبات الزمن. الإنسان الحديث لا ريب أبطأ وأضعف من سلفه الذي كان ينافس الضواري على الفرائس ويتسلق الأشجار ليبيت ليلته، غير أنه أذكى وأعمق وأدهى. المستقرئ للتطور البشري يدرك أن إنسان المستقبل سيكون أضعف ذاكرة وحوسبة، لكن أكثر قدرة على التساؤل والإبداع.
نأتي إذن إلى بيت القصيد في خطر الذكاء الاصطناعي. لب المسألة كما أسلفت يكمن في استحواذ فئة على التقنية لتطويع أخرى، وتلك سليقة البشر عبر التاريخ. يمكن للفئة المتفوقة الهيمنة عبر ثلاثة محاور:
آلة الحرب.
آلة التخابر.
آلة الإعلام.
المحور الأول هو استخدام التقنية في آلة الحرب والدمار وصنع الأسلحة الفتاكة. ساذج من يعتقد أن العالم تخطّى هذا الهوس، وأن الإنسان الحالي أضحى مسالماً. قد يكون الفرد العصري أكثر سلماً من سابقه، لكن السياسي العصري وصناع الحرب أكثر لؤماً وشراً. غياب نظرية الردع التناظري القائمة في حالة أسلحة الدمار الشامل هو ما يرهب مع القادم من أسلحة الذكاء الاصطناعي. أخالها تكون أسلحة دقيقة الهدف شديدة الفتك قادرة على إتمام أدق التصفيات العرقية والإبادات الذكية إن طلب منها ذلك دون ترك آثار جانبية مدمرة للمنتصر كما العدو.
القدرات الاستخباراتية الهائلة والتغلغل إلى الخصوصيات والعقول هو شر لا يمكن منعه، بل يرتبط بأصل عمل الذكاء الاصطناعي. محور ذكاء الآلة وميزتها هو التعلم من الخطأ وعدم معاودته عبر لوغاريتمات الخطأ فالتصويب ثم في الذاكرة اللامتناهية المتعطشة للجديد من المعلومات. مصدر التغذية لما سبق ما هو إلا المستخدم وكل ما يتعلق به من صفاته وطباعه المدفونة. لا أبالغ لو قلت إن الآلة ستعرفك أكثر من نفسك، بل ستكون عقلك الباطن. لكن المفارقة هنا أنه بخلاف ما يستتر داخل جمجمتك سيكون هذا العقل ظاهراً. عندما تنتزع من الإنسان آخر معاقل خصوصيته سيغدو إما مسخاً يشبه الآلة ببرودها أو وغداً يتغذى على انحلال من حوله.
احتكار الإعلام وتحوير الحقيقة هي أشد المحاور رعباً. ما زالت الحقيقة حرة عبر التاريخ يمتلك كل إنسان الوصول إليها بطريقته، ما وهبنا أسمى خصائل إنسانيتنا في التساؤل والشك والبحث والاستكشاف. فيما تنقلك مصادر البحث الحالية إلى مراجع وأصول المعلومة، تبقى عملية الاستقصاء والتحليل لك. قد لا يمتلك الذكاء الاصطناعي مصدر الحقيقة فقط بل آلات التشويش على المصادر الأخرى وسحقها. ستملك اللوبيات الأقوى في العالم أشد الأسلحة فتكا في التأثير على الرأي العام وستصبح وسائل التواصل الاجتماعي مجرد لعبة بيد الذكاء الاصطناعي يحركها كما يشتهي أربابه. سيؤدلج النشء كما يريد رب الآلة ولن يعرف طريقة للحصول على الحقيقة من غيرها حتى يفقد منطقه التحليلي والاستدراكي تدريجياً. يخشى الغرب أن الفئة المسيطرة ستؤثر على الناخب حتى يغدو مسيراً لا مخيراً ثم تضمن لها الاستحواذ الدائم على السلطة.
أرجو ألا يفهم مقالي هذا بأنه دعوة إلى التخلي أو التنازل عن الذكاء الاصطناعي، بل أدعو إلى الأخذ به مبكراً وفهم خيره وشره والإلمام بتفاصيله، وما يترتب بعد ذلك من تسخير نفعه ودرء شره لصالح الوطن ومن فيه. فهو أداة جبارة لا مفر منها ستصلح إن صلح أربابها وتفسد إن فسدوا.