الصحافة بدون جمهور.. من يكتب فعلًا لمن لا يقرأ؟
الصحافة بدون جمهور.. من يكتب فعلًا لمن لا يقرأ؟
AI بالعربي – خاص
في مشهد إعلامي تغزوه الخوارزميات وتتحكم به مؤشرات التفاعل، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل لا تزال الصحافة تُكتب للناس، أم أنها أصبحت تُنتَج في فراغ رقمي لا أحد يصغي إليه؟ تبدو مفارقة “الصحافة بدون جمهور” أكثر واقعية من أي وقت مضى، حيث تتكدس المقالات والتحقيقات على المواقع، لكنها تمر غالبًا بلا أثر ولا قراءة.
أسباب هذا التراجع متعددة، تبدأ من تغير أنماط الاستهلاك، مرورًا بسياسات المنصات الاجتماعية التي تفضّل الفيديوهات القصيرة والمحتوى الترفيهي، ولا تنتهي بانهيار نموذج الاشتراك المدفوع في بيئات عربية يصعب فيها تحفيز القارئ على الدفع مقابل المعرفة. وفي ظل هذه المعادلة غير المتوازنة، تُطرح أسئلة وجودية عن مصير الصحافة نفسها: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب إذا كان لا أحد يقرأ؟
في دراسة أجرتها “رويترز للصحافة الرقمية” عام 2024، تبين أن نسبة التصفح الفعلي للمقالات الطويلة لا تتجاوز 12% من عدد النقرات، وأن معظم المستخدمين يكتفون بالعنوان وربما الفقرة الأولى. هذه الظاهرة تُعيد تعريف معنى “الوصول”، فالوصول البصري لا يعني قراءة فعلية، بل ربما يعني مرورًا عابرًا.
ومع تحول الصحفي إلى منتج محتوى متعدد الوسائط، باتت المهمة تتجاوز الكتابة، لتشمل الأداء الصوتي، التحرير المرئي، والتفاعل مع الجمهور. لكن المفارقة المؤلمة أن هذا الجمهور، الذي يُفترض أن يكون طرفًا في المعادلة، أصبح شبحًا رقميًا يتغيّر ذوقه باستمرار، ويصعب الإمساك به أو فهمه.
يرى البعض أن المشكلة ليست في الجمهور، بل في طبيعة الخطاب الصحفي الذي لم ينجح دائمًا في تجديد نفسه أو مخاطبة المتلقي بلغته الجديدة. بينما يحمّل آخرون المسؤولية للمنصات التي صممت بيئات تشجّع على الاستهلاك السريع لا على التفاعل العميق. وهكذا يجد الصحفي نفسه بين مطرقة الخوارزمية وسندان الجمود المهني.
ومع ذلك، لا يمكن الحديث عن “موت الصحافة” بقدر ما يمكن الحديث عن “إعادة تعريف دورها”. فالصحفي المعاصر لم يعد مجرد ناقل للخبر، بل أصبح باحثًا عن السياق، ومفسرًا للضجيج، ووسيطًا بين العالم الواقعي والمعلوماتي. وهو بذلك لا يخاطب جمهورًا عريضًا بالضرورة، بل ربما يخاطب جمهورًا نخبويًا أو دقيقًا يهتم بالجودة لا بالكم.
في هذا السياق، يظهر توجه جديد نحو “الصحافة المتخصصة”، حيث تُكتب المواد لجمهور نوعي، مثل صناع القرار، الباحثين، أو العاملين في قطاع معين. هذا التحول قد لا يمنح الصحافة الشعبية أرقامًا كبيرة، لكنه يمنحها أثرًا عميقًا.
لكن السؤال يبقى قائمًا: هل يمكن لمهنة الكتابة أن تستمر في غياب جمهور واسع؟ وهل يمكن للإعلام أن يعيش على الهامش في زمن أصبحت فيه كل دقيقة خبرًا وكل شخص منصة؟ أم أن النجاة الوحيدة تكمن في التحول الجذري نحو نماذج جديدة للتلقي والإنتاج والتفاعل؟
اقرأ أيضًا: إعادة تدوير الرأي.. كيف تعيد المنصات تدوير المحتوى القديم باعتباره جديدًا؟