لقاحاتٌ في وقت قياسي.. هكذا يُسهم الذكاء الاصطناعي في تطور العلم

15

سارة إبراهيم

في وقت قياسي ، تمّ تطوير لقاحين فعالين للغاية ضد الفيروس المتسبب في جائحة كوفيد – 19 وذلك بفضل استخدام الذكاء الاصطناعي في علم الأحياء الحديث والتعاون المُبدع بين الباحثين من جميع دول العالم، ومن بينها سويسرا.

من وراء التحديات الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، تكمن فرص لتكنولوجيا قادرة على إحداث ثورة في عالم العلوم وحل بعض أكثر المشكلات تعقيدًا في علم الأحياء الحديث، وأولها التنبؤ ببنية البروتينات غير المعروفة لكشف أسرار الخلايا والأمراض التي تصيبها. وفي الآونة الأخيرة، تصدّرت هياكل البروتين عناوين الصحف بسبب دورها المركزي في تطوير لقاحات جديدة لـمجابهة جائحة كوفيد – 19، مثل اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال (بالإنجليزية: Messenger RNA).

ويعتبر تحديد شكل البروتينات تجريبيًا عملية طويلة وشاقة، وتتطلب شهورًا من البحث وتكلفة كبيرة من الموارد، وهذه المعلومات ضرورية لدراسة الفيروسات الجديدة وفهم سلوكها وتطوير لقاحات فعالة ضدها، ومن هنا كان التنبؤ الحسابي نهجا مهما لتحديد البروتينات غير المعروفة.

واليوم، أصبح من الممكن  – بفضل تطورات الذكاء الاصطناعي الأخيرة – التنبؤ بدقة كبيرة بالهياكل ثلاثية الأبعاد للبروتينات المستهدفة والمعقدة للغاية، وقد أمكن التوصل إلى مَعلم مهم بواسطة نظام الذكاء الاصطناعي “ألفا فولد2 – AlphaFold2” ، الذي ابتكرته شركة “ديب مايند DeepMind” في لندن “المملوكة لشركة غوغل Google منذ عام 2014”.

أتاح نظام ألفا فولد سرعة تحديد مختلف الهياكل البروتينية لفيروس “SARS-CoV-2” أو سارس كوفيد-2 ، الذي لم يكن يُعرف عنه، حتى قبل بضعة أشهر ، سوى القليل من المعلومات، كما سمح العمل الدؤوب للعلماء والتعاون الدولي – مع الاستعانة بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي – بسرعة التفاعل مع الوباء. ومنذ شهر ديسمبر 2020 ، يخضع ما يصل إلى ستين لقاحًا مُحتملاً للتقييم السريري، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.

في هذا الإطار، ينظر الباحثون في مجال الطب الحيوي إلى هذا الوضع باعتباره نقطة تحول في مجال العلم: “إنها نتيجة مذهلة للغاية” ، قال تورستن شفيدي ، نائب رئيس قسم الأبحاث في جامعة بازل ورئيس مجموعة الأبحاث في المعهد السويسري للمعلوماتية الحيوية رابط خارجي “يُشار إليه اختصارا بـ SIB”، التي طوّرت ما يُعرف بـالأنموذج السويسري “سويس موديل SWISS-MODEL”، وهو خادم نمذجة لمحاكاة هيكل البروتين، مؤتمتٌ بالكامل، ويستخدمه الباحثون في جميع أنحاء العالم. وقد كانت النتائج التي حققتها شركة “ديب مايند DeepMind” ممكنة أيضًا بفضل التقدم المحرز في السنوات العشر الماضية في مجال البيولوجيا الهيكلية الحسابية، والتي كان نظام SWISS-MODEL السويسري رائدًا فيها.

رجال وبرمجيات

لكن قد يتساءل البعض: ما هو سرّ وجود البروتينات في بؤرة المجال الطبي والعلمي؟ مع أن البروتينات صغيرة إلا أنها ذات أهمية رئيسية، فهي أساس العمليات الكيميائية والبيولوجية للخلايا البشرية وفي أي كائن حي، وهي تتكون من أحماض أمينية ترتبط ببعضها البعض لتشكل تجمّعات عشوائية على شكل مطويات تُدعى “أوريغامي”، وهي التي تحدد بُنية الهيكل ثلاثي الأبعاد لكل بروتين. لذلك، فإن معرفة بُنية البروتينات تسهّل كثيرًا البحث الطبي الحيوي لا سيما في مجال الأمراض البشرية، ومنه اعتبرت الأوساط العلمية النتائج التي حققتها شركة “ديب مايند DeepMind” ثورية، ومن المؤمّل أن يُترجم هذا الإنجاز إلى تطوير أدوية جديدة وعلاجات دوائية متقدمة.

كان النموذج السويسري “SWISS-MODEL” أول برنامج على الإنترنت قادر، بطريقة مستقلة تمامًا، على نمذجة البنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات التي لم تُعرف بعد على المستوى التجريبي، وهو يرجع بالفضل إلى مؤسسة مانويل بيتش، عالم المعلوماتية الحيوية، الذي أطلق في عام 1993 فكرة استخدام أنظمة نمذجة حاسوبية لا تتطلب تدخلًا بشريًا للحصول على معلومات عن بُنيات البروتينات وفهم أفضل للوظائف الجزيئية.

في تلك الأيام ، بدت الفكرة كما لو كانت خيالا علميا، أما اليوم، بفضل التطوّر المتسارع في تقنية “نمذجة التماثل” أي مقارنة هياكل البروتينات المعروفة بسلاسل البروتينات غير المعروفة، فقد بلغت البرامج مبلغا يتجاوز القدرات البشرية من حيث الدقة والأداء، وأصبح استخدامها في جميع أرجاء العالم من قبل مستخدمين تزيد خبرتهم أو تنقص. ففي كل عام، يُعالِج النموذج السويسري أكثر من مليون طلب لتركيبات بروتينية تجريبية “قوالب” لا تتطلب تدخلا بشريا.

الواقع والخيال العلمي

على مدى العقود الثلاثة الماضية، كان العلماء يحاولون اشتقاق الشكل ثلاثي الأبعاد المميّز للبروتينات عن طريق تسلسل الأحماض الأمينية، وهذه الطريقة، تجعل معرفة الهياكل التجريبية للبروتينات، ذات الصلة، عملية النمذجة سهلة ودقيقة نسبيًا، أما في الحالات الصعبة، فإن عدم وجود معلومات عن التراكيب الهيكلية لعائلة بروتينية قيد الدراسة يعني إجراء تنبؤ من الصفر، شديد التعقيد وغالبًا ما يكون غير دقيق، ولكن “بفضل ابتكار “ألفا فولد2” (AlphaFold2) من جانب “ديب مايند” (DeepMind) لم يعد هذا التمييز موجودًا، ذلك أن التطبيق يصلح سواء للحالات السهلة أو لتلك المعقدة للغاية، وهذا بلا شك اختراق حقيقي، حيث أصبح بإمكان الذكاء الاصطناعي إنجاز ما عجز عنه أبرع الخبراء في مجال نمذجة البروتين، على حدّ قول شفيدي.

ويستخدم نظام الذكاء الاصطناعي “ألفا فولد2” تقنيات التعلم الآلي المتقدمة، والشبكات العصبية العميقة، للتنبؤ مباشرة بهياكل البروتينات من تسلسلها الجيني، وبناء عليه، تعلّمَ الذكاء الاصطناعي تسلسل وهياكل حوالي 100 ألف بروتين معروف باستخدام البيانات التجريبية التي أتاحها المجتمع العلمي، فأضحى قادرًا على إجراء تنبؤات نموذجية ثلاثية الأبعاد في غاية الدقّة، وحققت شركة “ديب مايند DeepMind” بذلك نتائج استثنائية باعتراف منظمي منافسة التقييم النقدي لتقنيات التنبؤ ببنية البروتين (اختصاراً كاسب أو CASP) الذين وصفوا قدرة “ألفا فولد2” على الحساب والتنبؤ أنها “لم يسبق لها مثيل”.

القاعدة الذهبية للتقدم

يُعدّ الدعم الصحيح من المجتمع العلمي، والتبادل المفتوح للمعلومات في مجال البيولوجيا الهيكلية الحسابية، الذي ساهم فيه “النموذج السويسري”، جزءًا من المعطيات التي تفسر نجاح شركة “ديب مايند”، وفقًا لتورستن شفيدي، حيث مكّن تداول طرق الحساب والبيانات الهيكلية “ديب مايند” من الحصول على المعلومات اللازمة لحل إحدى أكثر المشاكل المعلوماتية الحيوية تحدّيًا.

في الوقت نفسه، أظهر تعزيز التبادل في فترة انتشار الوباء، مدى أهمية التعاون في تحقيق نتائج قيّمة في زمن قصير جدًا، ويقول شفيدي: “لقد تعلمنا الكثير خلال فترة هذا الوباء، فقد مكّنت المشاركة المفتوحة، داخل الأوساط العلمية، للمعلومات حول فيروس سارس كوفيد-2 من تطوير لقاحات في وقت قياسي”، وهذا دليل على أن حجب البيانات وعزلها فيما يُشبه المخابئ المحصنة قد ينطوي على نتائج في غاية السلبية بل عكسية على العلم.

اترك رد

Your email address will not be published.