ذكاء اصطناعي من أجل الفقراء
فورين أفيرز
بين أوساط النخبة في البلدان الغنية، ساد قلق بشأن الذكاء الاصطناعي مفاده بأن الآلات ستستولي على وظائفنا. مع الشعبية الهائلة التي يحظى بها “شات جي بي تي” ChatGPT، روبوت الدردشة النابض بالحياة إلى حد الذهول، أخذ الخوف يعتري كثيراً من الناس في الغرب من أن خطر حلول الروبوتات محلنا لا يتهدد سائقي الشاحنات وعمال التجميع فحسب.
بل أيضاً أصحاب المهارات المعرفية الذين يتقاضون رواتب عالية. وبات المحاسبون، ومحللو البيانات، والمبرمجون والمستشارون الماليون، والمحامون، وحتى كتاب السيناريو في هوليوود، باتوا جميعهم يخشون الآن من أن الذكاء الاصطناعي سيتركهم عاطلين من العمل.
ولكن من المرجح أن يترك الذكاء الاصطناعي تأثيراً مغايراً تماماً على 100 دولة مختلفة وأكثر من 4 مليارات شخص في العالم النامي. توظف البلاد المنخفضة الدخل عدداً أقل كثيراً من العاملين في مجال المعرفة، وتشتغل نسبة أكبر من سكانها في قطاعات أقل قابلية للأتمتة، خصوصاً الزراعة. في البلدان الفقيرة، لا يتمثل السؤال الكبير في كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي في ملايين الموظفين..
بل كيف سيستخدم مليارات الأشخاص الذكاء الاصطناعي. في العالم النامي، ربما لن تتمثل أكثر التطبيقات التغييرية للذكاء الاصطناعي في الاستخدامات التي تحل بديلاً من البشر، بل في التي تفتح الباب أمام إمكانات وفرص جديدة بالنسبة إلى هؤلاء الناس.
حتى الآن، نجد أن غالبية المناقشات تقريباً بشأن سبل دعم الذكاء الاصطناعي والتخفيف من مخاطره تمحورت حول البلاد الغنية، أي الموطن الحاضن للشركات والجامعات التي تعكف على تطوير هذه التكنولوجيا. في المقابل، لأن تأثيرات الذكاء الاصطناعي، الجيد منها والسيئ، ستتكشف على نحو مختلف في البلدان الفقيرة.
ليس مستبعداً أيضاً أن تختلف الاستثمارات والقوانين التظيمية التي تعوزها هذه البلاد [عن نظيراتها في العالم المتقدم]. كتب الفلاسفة والاقتصاديون وخبراء التكنولوجيا كثيراً من الدراسات بشأن مستقبل الذكاء الاصطناعي في العالم المتقدم. وقد آن الأوان الآن للتفكير في أجندة الذكاء الاصطناعي بالنسبة إلى بقية أجزاء العالم.
قوة الآلة
لقد خلف تعلم الآلات [أي نقل معارف بشرية متنوعة إلى الآلات الذكية وتدريبها عليها تأثيره في حياة فقراء العالم بالفعل. مثلاً، يبرز ذلك في التطورات الحاصلة ضمن مجال الائتمان المصرفي. لا يملك كثير من الفقراء أي سجلات مالية ودرجات ائتمان، من ثم لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل من فرص الحصول على القروض الرسمية.
في عام 2010، اقترحت شخصياً طريقة لإنشاء درجات بديلة من الائتمان المصرفي، باستخدام تعلم الآلات بغية استخلاص استنتاجات حول احتمالية السداد من طريق النظر في بيانات جمعت تلقائياً بواسطة شبكات الهواتف المحمولة.
تندرج هذه الطريقة الآن ضمن طرائق عدة استخدمها المقرضون في عشرات البلدان بغرض تقديم قروض صغيرة عبر الهاتف المحمول إلى ملايين الأشخاص. يعمل باحثون آخرون على تطبيق تعلم الآلات على النوع نفسه من البيانات بغية تحديد الأسر الأكثر فقراً في منطقة معينة، ثم معرفة كيفية توجيه المساعدات لها أثناء الأزمات.
كذلك تستخدم بعض الجهات الأخرى تقنية تعليم الآلات على الصور المأخوذة بواسطة الأقمار الاصطناعية، وتحسين التقديرات السكانية بناء على أنماط التجمعات السكانية البشرية، ووضع توقعات بشأن نقص الغذاء بناء على أنماط الغطاء النباتي. هكذا، تسلط هذه البرامج الضوء على قيمة معينة ينطوي عليها الذكاء الاصطناعي في العالم النامي، أي في البيئات التي تقل فيها المعلومات فيكون في مقدور تعليم الآلات استخلاص مؤشرات من مصادر جديدة للبيانات.
لا تتوقف الاحتمالات عند هذه الحدود. لننظر مثلاً في التعليم. تواجه غالبية أنظمة التعليم في البلاد النامية صعوبات كثيرة من أجل تقديم تعليم جيد النوعية. ربما في وسع المدرسين المدعومين بالذكاء الاصطناعي الذين يقدمون للتلاميذ والطلاب ملاحظات حول جهودهم كل بحسب شخصيته، أي روبوتات الدردشة ذات الصبر اللامتناهي، أن يلبوا ذات يوم احتياجات تلاميذ المدارس النائية من المشغوفين بالعلم.
كذلك ربما يساعدون المهنيين في التنقل بين المهارات، مما يتيح، مثلاً، لعمال الصيانة رفع مستوى مهاراتهم وتعلم الهندسة. أو لننظر مثلاً إلى الصحة. في بلاد كثيرة من العالم النامي، من الصعب الحصول على المشورة الطبية السليمة، لكن ربما تقدم الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تشخيصات طبية أفضل وتغدو متوفرة على نطاق واسع. كذلك تعاني مجتمعات عدة ارتفاعاً في معدلات حالات الاكتئاب في مقابل نقص في أعداد المعالجين النفسيين.
وبالتالي، ربما تسد الأدوات الرقمية الخاصة بالصحة العقلية والنفسية من قبيل روبوتات الدردشة المتخصصة بالعلاج النفسي، حاجة فعلية لكن بكلفة منخفضة. كذلك يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يؤدي دوراً مماثلاً في مساعدة الناس في التنقل بين الأجهزة الإدارية البيروقراطية. هكذا، يغدو باستطاعة رجل أعمال هندي يتطلع إلى دخول سوق جديدة، مثلاً، الاعتماد يوماً ما على تطبيق إلكتروني مدعوم بالذكاء الاصطناعي لملء التصاريح المطلوبة.
ولنلاحظ أن التكنولوجيات الداعمة لتلك الاستخدامات المحتملة تستمر في التحسن، فيما تستثمر البلاد الغنية موارد ضخمة في الذكاء الاصطناعي. وسيكون الأساس بالنسبة إلى البلاد النامية استكمال هذا التدفق من الاستثمارات عبر الاستفادة من التكنولوجيات المبتكرة في توفير منتجات وخدمات تلبي الاحتياجات المحلية.
وفي البلاد النامية، تتوفر مجموعة من البنى الأساسية الاجتماعية اللازمة للشروع في مشاريع جديدة، على غرار مراكز التكنولوجيا، والجامعات، ومجموعات رواد الأعمال. ولكن ليس لدى الشركات حافز كبير يدفعها إلى تطوير تطبيقات رقمية ذكية تستهدف أفقر الناس، الذين قلما يكون تقديم الخدمات لهم مربحاً.
في المقابل، تستطيع بعض البلاد الكبيرة والمتوسطة الدخل على شاكلة الهند أن تتغلب على هذه المشكلة من طريق الاستثمار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التي تصب في مصلحة الفقراء. ولكن، ثمة بلدان أخرى عدة تفتقر إلى الموارد والحجم اللازمين لذلك.
وبالاستناد إلى ذلك، يبرز دور شبكات رواد الأعمال الذين يمكنهم مشاركة التعلم عبر الحدود، والمنظمات الدولية مثل “البنك الدولي”، التي يمكنها تنسيق الاستثمارات بين الحكومات والمؤسسات الخيرية.
نظام روبوتي ذاتي التسيير أثناء عرض تدريبي بالذخيرة الحية في هانتسفيل، ولاية الاباما بتاريخ مارس 2023 (رويترز)
منحنى تعليم الآلات
ثمة مساران رئيسان قد تسلكهما أدوات الذكاء الاصطناعي في العالم النامي. يتمثل أولهما بالعثور على مهمة يبرع الذكاء الاصطناعي في إنجازها داخل البلاد الغنية، ثم تكييفها مع البلاد الفقيرة. مثلاً، يعمل رواد أعمال كثر على تطوير روبوتات دردشة متخصصة بالتدريس كي تستفيد منها المدارس الثرية، علماً أنه في المستطاع إدخال تعديلات على تلك الأدوات كي تكون قادرة على العمل في أماكن حيث الاتصال بالإنترنت سيئ، وحيث نسبة عدد التلاميذ إلى عدد المدرسين مرتفعة.
ويتجسد المسار الثاني الذي قد تسلكه أدوات الذكاء الاصطناعي في العالم النامي، بإيجاد استخدامات جديدة تماماً لمنتجات الذكاء الاصطناعي الجديدة، تكون قادرة على تلبية الاحتياجات المحددة للعالم النامي. مثلاً، من شأن التخطيط المالي المدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يساعد المزارعين الذين يعتمدون في الاكتفاء الذاتي في إيجاد حلول للمخاطر التي تنطوي عليها المحاصيل التي يقررون زراعتها.
في الواقع، بدأت بعض الابتكارات في بلد فقير ولم تجد طريقها إلى البلاد الأكثر ثراء إلا لاحقاً. مثلاً، انطلقت منصة “إم- بيسا” M-Pesa لتحويل الأموال والدفع في مقابل الخدمات المختلفة عبر الهاتف المحمول [من دون الحاجة إلى امتلاك حسابات مصرفية] في كينيا قبل وقت طويل من ظهور تطبيقات إلكترونية مماثلة لها في الولايات المتحدة.
استطراداً، في حين أن من شأن بعض أدوات الذكاء الاصطناعي الناشئة في البلاد الغنية أن تعمل بشكل جيد تماماً خارج الإطار التقليدي في العالم النامي، يحتاج بعضهم الآخر إلى تطويع وتكييف. إذ تتمثل إحدى المشكلات في أن معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي خضعت للتدريب على بيانات خاصة بالعالم المتقدم.
علماً أن هذه البيانات مستقاة من ذوي الدخل المرتفع نسبياً وعادة ما تكون مكتوبة باللغة الإنجليزية. لا يتناول الفقراء سوى جزء صغير من مجموع المعارف المكتوبة عالمياً، إضافة إلى تلك المكتوبة بلغات تحكيها مجموعات من الأقليات. علاوة على ذلك، دربت أنظمة الذكاء الاصطناعي في الغالب على اتخاذ قرارات ومخرجات ترضي المستهلكين الأثرياء في الغرب، لذا تراها ترتكب أخطاء عدة عند التعامل مع الفقراء في أماكن أخرى، مثلاً، الترحيب بالزبائن مع استخدام أسمائهم الأولى في ثقافة تعتبر هذا الشكل من رفع الكلفة قلة احترام.
واستكمالاً، نالت المجتمعات الغربية الثرية قصب السبق في جمع بيانات التدريب، لذا ستستغرق نماذج الذكاء الاصطناعي وقتاً طويلاً قبل أن تصبح جاهزة لتمثيل سكان بقية العالم تماماً. ولكن يسعنا تسريع العملية. من شأن الباحثين تعيين تطبيقات تثبت قدرتها على إحداث تغييرات، شرط أن يقتصر ذلك على حالات النجاح في جعل البيانات التي تستند إليها أكثر تمثيلاً.
مثلاً، ربما يجدي المستشار الطبي المدعوم بالذكاء الاصطناعي نفعاً في مساعدة مريض يعاني ارتفاع ضغط الدم في “وادي السيليكون”، لكنه يبقى أقل فائدة بالنسبة إلى مريض في لاغوس يكابد الملاريا لأنه غير ملم بالحالات الطبية المحلية. أو ربما يكون مثل هذا النظام شائعاً بين المتحدثين باللغة الإنجليزية، ولكنه غير متوفر بلغة “يوروبا”، إحدى اللغات الأم الرئيسة في نيجيريا.
بغية التعويض عن ندرة البيانات المتوفرة في العالم النامي، لا بد من إنشاء محتوى جديد تتدرب عليه النماذج الذكية. في هذه الحالة، يشكل حشد المعلومات من الجمهور عاملاً مساعداً. يهتم مشروع “ويكي أفريقيا”WikiAfrica ، مثلاً، بإضافة محتوى أفريقي إلى موسوعة “ويكيبيديا” المفتوحة على الإنترنت. تكتسي هذه المبادرات قيمة أكبر الآن، ذلك أن هذه المعرفة تسهم في توصل الآلات الذكية إلى قرارات أفضل.
في المجالات الأخرى، كالطب أو الزراعة، إذ لا يكون اتخاذ القرار الصائب بالأمر الهين، لن تكون الاستعانة بالجمهور لتجميع المعلومات خطوة كافية. بل من الأجدر تعيين خبراء، أو رقمنة البيانات التقليدية من شاكلة السجلات الورقية الخاصة بالعيادات. لا يشكل تمثيل السكان سوى جزء من اللغز لأنه سيتعين على المطورين التوفيق بين المجموعات السكانية التي تمتلك مجاميع من القيم المختلفة. ربما تختلف الجماعات الدينية المتنوعة في الهند، مثلاً، بشأن النصيحة الطبية المناسبة.
ثمة مشكلة أخرى تتمثل في استجلاب الذكاء الاصطناعي إلى العالم النامي، مع الأخذ في الاعتبار طبيعتها تكنولوجية. على رغم التقدم المهول، ما زال العالم النامي متخلفاً عن العالم المتقدم في عدد من المعايير التكنولوجية. ستتطلب بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي وصولاً أوسع إلى الهواتف الذكية، أو اتصالاً أفضل بالإنترنت، أو أنظمة أفضل في حفظ السجلات الرقمية لتتبع أداء التلاميذ في المدرسة، أو صحة المرضى في المستشفى، أو نتائج القضايا في قاعة المحكمة.
بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي، على غرار الحال مع الموجات السابقة من الابتكار التكنولوجي، لا بد في المقام الأول من التمييز بين التطبيقات التي ستعود بالنفع في وقت قريب نسبياً، وبين التطبيقات التي لن تغادر عالم الخيال العلمي في المستقبل المنظور. وسيشهد هذا المسار تحولاً، وسيختلف من مجال إلى آخر. مثلاً، يبقى الطب أقل تسامحاً بصورة قطعية مع الأخطاء التي سترتكبها أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتعتمد الزراعة على عوامل ظرفية دقيقة تبدو بديهية بالنسبة إلى المزارعين فيما من الصعب التعبير عنها في أنظمة الذكاء الاصطناعي.
حدود القوانين
في العالمين المتقدم والنامي على حد سواء، سيحمل معه انتشار الذكاء الاصطناعي مخاطر عدة. ولكن تواجه البلاد النامية مجموعة مخاطر مختلفة، فضلاً عن أنها أقل قدرة على صوغ قوانين تنظم عمل هذه التكنولوجيا. يكمن السؤال الرئيس في مدى استمرار هذه التكنولوجيا في كونها مركزية، بمعنى أن يتحكم فيها عدد صغير من شركات التكنولوجيا. من المرجح استحداث قوانين خاصة بأنظمة الذكاء الاصطناعي المركزية في الأسواق الكبيرة، من قبيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لا تملك الأسواق الأصغر سوى تأثير محدود، لذا ستعيش في ظل قوانين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. على رغم أن هذه الأسواق قد تغلق منافذ الوصول إلى نظام مركزي، على غرار حظر خوادم “سيرفرات” الاتصال بالإنترنت، على النحو الذي سلكته بعض الحكومات الاستبدادية تجاه منصات “تويتر” و”فيسبوك” و”يوتيوب”، بيد أنها لن تكون قادرة على منع المحتوى الذي أنشأه الذكاء الاصطناعي من عبور الحدود.
تقديم نموذجي عن الذكاء الاصطناعي في معرض للأمن والسلامة العامة في بكين بتاريخ أكتوبر 2018 (رويترز)
ومع ذلك، لا يبدو واضحاً إذا كان الذكاء الاصطناعي سيبقى نظاماً مركزياً أم لا. إذ إن البدائل المفتوحة المفتوحة المصدر مثل “لاما”Llama (نموذج لغوي كبير ذكي أنتجته “ميتا” الشركة التي تملك “فيسبوك”)، و”ستيبل دفيوجن”Stable Diffusion (ذكاء اصطناعي توليدي للصور أنشأته الشركة الناشئة “ستابيليتي أي آي”)، تكتسب زخماً وتحقق تقدماً. تبقى هذه الأنظمة اللامركزية قابلة للتعديل والتشغيل بواسطة أي شخص يملك جهاز كمبيوتر.
إذا أصبحت مفيدة بدرجة كافية، سيكون من الصعب على أية دولة وضع قوانين تنظم عملها مباشرة. ولكن من السهل تكييف الأنظمة المفتوحة للجميع مع الاحتياجات المحلية لأنها غالباً ما تكون مجانية الاستخدام، ولأن في وسع أي شخص إدخال تعديلات على التعليمات البرمجية الخاصة به.
نظراً إلى أدوات التنظيم المحدودة، قد تضطر البلاد النامية إلى الاكتفاء بالتأقلم مع التكنولوجيا الجديدة بدلاً من السيطرة عليها. وبغية التخفيف من الأضرار، ربما يتعين عليها التركيز على وضع قوانين ليس للذكاء الاصطناعي نفسه بل الصناعات التي تستخدمه، مثل اللجوء إلى قوانين حماية المستهلك التي تحمل الشركات المسؤولية حينما يكون المنتج غير آمن، بغض النظر عن درجة استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاجه.
في مسار مواز، لقد أثار الذكاء الاصطناعي نقاشاً مفيداً حول صوغ القوانين تنظم عمله في الدول الغنية. وفي المقابل، تبين أن مقترحات عدة بشأن التصدي لمخاطره، قد لا تفيد بصورة كافية في البلاد الفقيرة. لا تدرك الجهات التنظيمية في الغرب طريقة عمل القواعد التنظيمية ضمن سياقات مختلفة، والنظام المعتمد في بروكسل [الاتحاد الأوروبي.
مثلاً، على أساس أنه آمن ربما يخفق في مدينة بنغالور الهندية [تعتبر المدينة قلب وادي السيليكون في الهند]. علاوة على ذلك، قد تكون معايير الهيئات التنظيمية الغربية صارمة على نحو غير ملائم في المناطق حيث البدائل الحالية لتطبيق الذكاء الاصطناعي أسوأ كثيراً. مثلاً، لا ينبغي أن تكون توقعات الطقس مثالية بغية تحسين الإمكانات المتاحة للمزارعين في البلاد النامية.
وحتى في البيئات العالية المخاطر مثل الطب، ليس مستبعداً أن يكون الذكاء الاصطناعي قريباً، أفضل من الخيارات الحالية المتوفرة أمام الفقراء. تولت دراسة واحدة عام 2023 مراجعة الأداء السريري في البلدان المنخفضة الدخل لمعرفة عدد الحالات الصحية التي عولجت بشكل صحيح. والجواب؟ أقل من النصف.
في الوقت نفسه، يبقى الشخص العادي في دولة نامية أكثر ضعفاً من نظيره في العالم المتقدم. إذ يجد كثير من السكان في العالم النامي صعوبة في اللجوء إلى الطعن في القرارات المؤتمتة، مثل رفض طلب الحصول على قرض مالي. غالباً ما يكون أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي الجديدة أسوأ مما قد يتوقع ظاهرياً، ومن السهل جداً على الشركات تجاهل المشكلات التي تنشأ مع أصحاب الدخل المنخفض. لهذا السبب سيكون من المهم بالنسبة إلى الجهات التنظيمية التأكد من قدرة المستهلكين على امتلاك وسائل إجرائية كافية في الإبلاغ عن المشكلات والطعن في القرارات.
ربما على البلاد النامية أن ترضى بالتأقلم مع التكنولوجيا الجديدة بدلاً من السيطرة عليها
في سياق متصل، يعوز كثيرون من سكان العالم النامي الاطلاع بشكل كاف على الذكاء الاصطناعي، ولم يسمعوا أبداً عن الخوارزميات. وبالتالي، لا بد من الحرص على التواصل الفاعل. لقد أظهرت دراسة نهضت بها شخصياً بالتعاون مع الزميلين جوشوا بلومنستوك وسامسون نايت، أنه من المستطاع تحقيق هذا الهدف.
لقد قدمنا لذوي الدخل المنخفض في كينيا تطبيقاً إلكترونياً يكافئهم مالياً بناء على طريقة استعمالهم هاتفهم المحمول، وذلك باستخدام خوارزمية سجلت درجات الجدارة الائتمانية لدى الفرد. وحينما حصل المشاركون على شرح واضح لكيفية عمل الخوارزميات، عمدوا إلى تعديل سلوكهم، في علامة تدل بوضح على الفهم.
في الإطار نفسه، تبدو المعوقات السياسية كثيرة كذلك. إذ يشمل ذلك التزييف العميق، والصور الواقعية، ومقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية المتولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وتترك تلك الأشياء كلها تأثيراً مضراً في البلدان النامية خصوصاً، حيث تميل الأنظمة السياسية إلى الهشاشة، وغالباً ما تتدنى الثقة بين جماعات السكان.
وحينما يدرك الناس أن إنشاء هذه المحتويات أمر ممكن، فإنهم قد يتوقفون عن تصديق المحتوى الذي يحمل أدلة إدانة حقيقية بالفعل. وبغية تفادي هذه المشكلات، يمكن للمجتمع المدني أن يؤدي دوراً في بناء أساس الثقة، أي نشر الوعي بأن المحتوى قد يكون مزيفاً وإنشاء مواقع مستقلة تشتهر بتفحص المحتوى.
كذلك يوفر الذكاء الاصطناعي أشكالاً جديدة من المراقبة، مثل تتبع الأشخاص عبر الأجهزة المحمولة والتعرف إلى الوجه. لا تتولى غالبية البلاد النامية في سوق أدوات المراقبة العالية التقنية تطوير أدواتها الخاصة بل تستوردها، غالباً من الصين.
وتقود الاستعانة بمصادر خارجية إلى تنفيذ عشوائي للتكنولوجيا المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، مما يسهل تسريب المعلومات التي تولت جمعها جهات خارجية، وانتهاك الحقوق بطرق غير متوقعة. مرة أخرى، سيكون للمجتمع المدني دور يضطلع به، ومراقبة الأنظمة الذكية الجديدة وتوجيه الانتباه إلى الانتهاكات.
الرجوع إلى المستقبل
ثمة تحديات وفرص رافقت هذه الموجة الحالية من الذكاء الاصطناعي، بسرعة غير مسبوقة. ولكن سبق أن شهدنا تحولات تكنولوجية مماثلة. يصح القول إن الهواتف المحمولة صممت في البداية للمستهلكين الأثرياء، بيد أنها انتشرت بين أوساط الفقراء طوال الأعوام الـ20 الماضية.
استفادت الدول النامية من الأجهزة المعيارية [أي التي تنتج وفق المعيار نفسه من المصنعين كلهم]، على غرار الهواتف والهوائيات [انتانات] المصنوعة في الغرب. ابتكرت شركات الاتصالات نماذج تجارية تخدم الفقراء، من قبيل اشتراكات الهاتف المحمول بنظام الدفع الفوري. وأنشأ رواد الأعمال مؤسسات جديدة أتاحت للناس استخدام الهواتف الذكية لإرسال الأموال والاستدانة والتحقق من الأسعار. واستطراداً، لقد حملت هذه الابتكارات الهواتف المحمولة بسرعة إلى معظم فقراء العالم، وربطتهم بالاقتصاد العالمي.
كذلك مهدت الروابط الطريق أمام انتشار الذكاء الاصطناعي. ولكن على رغم نجاح الهواتف المحمولة، لم يرق هذا الابتكار في العالم النامي إلى مستوى إمكاناته الكاملة. إذ ركزت غالبية ابتكارات القطاع الخاص على احتياجات الأثرياء. وكذلك وظفت استثمارات كثيرة في التطبيقات الرقمية الرامية إلى ربط المستهلكين الأثرياء بالسائقين، ومنازل الإجازات، ووجبات الطعام الجاهزة، أكثر من التطبيقات الرقمية التي تربط مزارعي الاكتفاء الذاتي بالأسواق، والأطفال في المناطق النائية بمؤسسات التعليم.
من المرجح أن يحدث الابتكار في القطاع الخاص في مجال الذكاء الاصطناعي تحولات في قطاعات عدة، بدءاً بالتعليم مروراً بالصحة وصولاً إلى القانون. وفي المقابل، يتطلب تسخير الإمكانات الكاملة للتكنولوجيا في البلاد النامية صياغة رؤية شاملة للإنجازات القابلة للتحقق، وإيلاء اهتمام إضافي بالفئات السكانية التي من شأن هذه التكنولوجيا أن تغير حياتها.
المصدر: انديبيندينت عربية