الذكاء الاصطناعي يساهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية
محمد الحمامصي
في ظل تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي يعيش العالم على أعتاب لحظة تحول جديدة تقودها هذه التكنولوجيا، وهو ما تناوله د.إيهاب خليفة في كتابه “الخوارزميات القاتلة العلاقات الدولية في عصر الذكاء الاصطناعي” وناقش تداعياتها، لافتا إلى أن الثورة الصناعية الخامسة تستهدف ترقية الإنسان نفسه من خلال منحه سيطرة أكثر على الآلات الذكية.
لو افترضنا أن التاريخ يدور في دوائر، فليس هناك شك أن الدائرة الجديدة قد بدأت، وبدأت معها عملية إعادة تشكيل النظام الدولي، مدفوعة في ذلك بتطور نظم الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة. فقد كان للقنبلة النووية التي ألقتها أميركا على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين عام 1945 أثر كبير على العلاقات الدولية، فهي لم تنه حربا استمرت قرابة السبع سنوات وشارك فيها 60 دولة وسقط خلالها أكثر من 70 مليون إنسان فحسب، بل أسست لنظام دولي جديد تقوده الدول التي خرجت منتصرة في هذه الحرب وهم دول الحلفاء وعلى رأسهم أميركا والاتحاد السوفيتي، فهذه القنبلة التي تمّ إلقاؤها مرة واحدة في التاريخ كانت نقطة تحول في ميزان القوى الدولي. وبعد عقود من استقرار هذا النظام، فإن العالم الآن على أعتاب لحظة تحول جديدة تقودها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
لحظة تحول جديدة
ثمة تطور تكنولوجي بحجم الثورة الصناعية الرابعة سوف يساهم في تسريع عملية إعادة تشكيل ميزان القوى بين الدول وفي هذا الإطار يتناول د.إيهاب خليفة في كتابه “الخوارزميات القاتلة.. العلاقات الدولية في عصر الذكاء الاصطناعي” التداعيات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي على العلاقات الدولية، فيناقش الصدمات التي يتعرض لها النظام الدولي والتي تدفع في اتجاه عملية إعادة التشكيل من جديد، والثورة الصناعية الرابعة كأحد محركات إعادة التشكيل والتنافس الدولي حولها، وقضايا الذكاء الاصطناعي في العلاقات الدولية ودوره في القيام بالمهام الدبلوماسية والتفاوضية.
كما يتناول التطبيقات العسكرية لنظم الذكاء الاصطناعي وأثرها على تغير مفهوم القوة، ثم يناقش الدرونز كحالة تطبيقية على توظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب، من حيث أنواعها وتطبيقاتها واستخداماتها العسكرية وآلية تعاملها مع نظم الدفاع الجوي وكذلك الحدود والقيود المفروضة عليها.
ويلفت رئيس وحدة التطورات التكنولوجية بمركز المستقبل في أبوظبي في كتابه الصادر عن دار العربي، إلى أن الملامح التي تسيطر على شكل النظام الدولي الحالي تكاد تشابه مثيلتها قبل تشكيله، فبعد ما يقرب من مئة عام تقريبا من أزمة الكساد الكبير في عام 1929 يشهد العالم أزمة اقتصادية أخرى، وإن كانت أقل في حدتها بسبب توقف حركة التجارة العالمية أثناء الإغلاق العالمي الذي تسبب فيه انتشار فايروس كوفيد19، وبعد عقود من الازدهار والتقدم تعود أوروبا للاقتتال من جديد بفعل الحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على جميع الدول الأوروبية. ومثلما فشلت عصبة الأمم من قبل في تحقيق الأمن والسلم الدوليين تفشل حاليا الأمم المتحدة ومجلس الأمن في منع كثير من الحروب الإقليمية والأهلية، وكما حل الاتحاد السوفيتي وأميركا محل فرنسا وبريطانيا – القوى العظمى في القرن الماضي ـ مدفوعة بتطور تكنولوجي غير مسبوق وهو التكنولوجيا النووية العسكرية، حيث من المتوقع أن تتسبب الثورة الصناعية الرابعة في إعادة تشكيل النظام الدولي من جديد.
ويؤكد خليفة أن التغير الذي يشهده النظام الدولي حاليا في تعقيداته وإعادة تشكيله، يشبه تماما “معضلة المتاهة”، فالمتاهة عبارة عن شبكة من المسارات المختلطة والمتقاطعة والمتشابكة، مسار واحد فقط هو الذي يؤدي للخروج من هذه المتاهة، لكن هناك مسارات تجعل طريق الخروج قصيرا رغم كونها معقدة، ومسارات أخرى تجعل طريق الخروج طويلا للغاية لكنها واضحة، ومسارات أخرى مغلقة، لا نعرف المغلق منها حتى نصل لنهاية هذا المسار فنعود من حيث بدأنا، يزداد الأمر تعقيدا بتغير أنماط هذه المتاهة من حين إلى آخر، تماما مثلما كان يحدث في الفيلم الشهير “معضلة المتاهة” (The Maze Dilemma). ومن خصائص هذه المتاهة أيضا أنها تتغير كلية وبوتيرة قد تكون سريعة لكنها تظل في النهاية “متاهة”، وهي أثناء تغيرها تنتج أنماطا ثابتة حتى وإن كانت غير مرئية، وظواهر جديدة حتى ولو كانت قيد التشكل، ومفاجآت غير متوقعة مشوبة بحالة من عدم اليقين المطلق، وهي أثناء إعادة تشكلها تغير من طرقها باستمرار لكن يظل هناك طريق للخروج منها في النهاية.
ويتابع: كيف يمكن فهم نمط هذا التغيير وسرعته واتجاهه حتى يمكن تحديد طريق الخروج الآمن منه، وأي ظواهر جديدة سوف يفرزها هذا التغير دون تحسب مسبق أو توقع، وأي ظواهر قائمة كانت بمثابة دليل للخروج من هذه المتاهة تغيرت ملامحها وزادت من تعقيد الموقف وجعلت مهمة تفسيره وتحليله أمرا معقدا للغاية.
التنافس الدولي
مثلما كان البارود والقنابل النووية من قبل محركا لإعادة تشكيل النظام الدولي، فإن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية هما المحرك الجديد لإعادة التشكيل وفق خليفة، قد لا توجد إجابات قطعية للإجابة على هذه التساؤلات، لكنها قد تمثل إطارا نظريا يمكن من خلاله فهم التحديات الجديدة التي يواجها النظام الدولي. وفي خضم هذا التشابك، فقد أصبح “النظام” فوضويا تشوبه حالة اللايقين المطلقة، ويصعب ليس فقط التنبؤ بمساراته، بل حتى رؤية المسارات الواضحة منها، ولم يعد النظام الدولي غريبا كما كان، وبفضل القوى الصاعدة كروسيا والصين والهند، كما أن القيم الغربية التي تم فرضها على النظام والقانون الدوليين أصبحت محل هجوم وموضع نقد لدى كثير من المجتمعات غير الغربية، وخاصة فيما يتعلق بازدواجية المعايير، مثل فرض العقوبات على الدول التي تختلف في نظامها القيمي عن الغرب وتشكل تهديدا لمصالحه والتدخل في النظم السياسية بداعي الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عن انتشار دعوات المثلية الجنسية وحرية تحويل الجنس وغيرهما مما يتنافى مع النسق القيمي لكثير من المجتمعات.
ونظرا لأن الصدمات التي يتعرض لها النظام الدولي من وباء وحرب وأزمة اقتصادية وثورة تكنولوجية قادرة على إعادة ترتيب القدرات العسكرية والاقتصادية للدول وتغيير أنماط العلاقات الدولية وإنشاء حاجات وموارد جديدة، فإن ثمة تطور تكنولوجي بحجم الثورة الصناعية الرابعة سوف يساهم في تسريع عملية إعادة تشكيل ميزان القوى بين الدول، ومثلما كان البارود والقنابل النووية من قبل محركا لإعادة تشكيل النظام الدولي، فإن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية هما المحرك الجديد لإعادة التشكيل لما يتمتع به من تطبيقات ثورية.
ويضيف أنه نظرا لأن الذكاء الاصطناعي يتفاعل مع غيره من أبعاد القوة، فإن ذلك قد يزيد من الفجوة بين مركز النظام الدولي والأطراف، فتزداد الدول التي طورت تقنيات الثورة الصناعية الرابعة قوة وسيطرة وتزداد باقي الدول في النظام الدولي ضعفا. هذا التغير لن يكون فقط على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي، بل أيضا على كافة المستويات الاجتماعية والإنسانية والقانونية، حيث تساهم هذه التقنيات في إعادة تشكيلها هي الأخرى، فتخلق سلعا جديدة وتفرز حاجات إنسانية متنوعة وتبتكر قنوات تواصل مختلفة وتظهر أنماطا سلوكية متعددة.
ويتساءل “إذا كان النظام الحالي اكتسب شرعيته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق من انتصار الأيديولوجية الرأسمالية الغربية على المعسكر الاشتراكي، وكانت مرجعتيه مادية غربية، كيف سيستقي النظام العالمي الجديد، إن جاز التعبير، مبادئه وقيمه، ومن أي اتجاه؟ هل من الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة؟ أم من حرب عالمية جديدة يفرض فيها المنتصر رغبته على الجميع؟، وماذا أيضا عن المفاهيم الجديدة التي سوف تفرزها مرحلة إعادة تشكيل نظام دولي جديد، أي المفاهيم التفسيرية التي يمكن أن تشرح الظواهر المستجدة بفعل الثورة الصناعية الرابعة، وهل هذا النظام الدولي سوف يعطي الدول وضعها باعتبارها الفاعل الرئيسي فيه، أم سيعظم من دور فواعل آخرين مثل شركات التكنولوجيا العمالقة التي أصبحت لديها قدرات تأثير أكبر من الدول؟، وما هي الصيغة التي يمكن أن تنشأ من تفاعل الدول مع هذه الشركات؟، وما هي المؤسسات الدولية التي يمكن أن تظهر لكي تحكم هذه العلاقة وتديرها؟”.
ويواصل طرح المزيد من التساؤلات فيما يحاول مناقشتها “هل نجد في المستقبل منظمة دولية يكون الصوت الحاسم فيها بين الأعضاء للذكاء الاصطناعي، فيمتلك حق الاعتراض منفردا على القرارات ويصبح تصويته على الموضوعات بمثابة حسم لهذا الخلاف، أو حتى يكون جميع أعضاء هذه المنظمة أصلا من النظم الذكية، تقوم كل دولة فيها بتقديم نظامها من الذكاء الاصطناعي لكي يناقش الخلاف في قضايا العلاقات الدولية مع زملائه من الأنظمة الذكية الأخرى، وتكون مهمة اتخاذ القرار حقا حصريا لهم وكأن هذه الروبوتات أو النظم الذكية أصبحت بمثابة ‘مجلس حكماء العالم’ الذي يتخذ القرار الصحيح، أو أن نشهد وزراء خارجية أو سفراء للدول من الذكاء الاصطناعي وليسوا من البشر، أو مثلما نشهد روبوتات وطائرات مسيرة هي التي تتولى عملية القتال في المعارك العسكرية حاليا؟”.
التخوف والانتباه
يقول خليفة “قد يرى البعض أن هناك مبالغة في اعتبار الذكاء الاصطناعي في حد ذاته فاعلا دوليا مستقلا ومؤثرا في العلاقات الدولية، له شخصيته الحقيقية وأدواته التي يمكن أن يؤثر من خلالها في العلاقات الدولية، وهذا حقيقي بل أشبه بأفلام الخيال العلمي، فالنظم الذكية لم تكتمل شبكتها النهائية بعد ولم تتضح علاقاتها المتشابكة، وما زالت عبارة عن مشاريع مستقلة بذاتها وتعاني من ثغرات أو مشكلات، لكن سرعة تطور هذه النظم تستدعي التخوف والانتباه، فقد تتحول في أي وقت من كونها أداة مساعدة للإنسان في القيام ببعض المهام إلى كونها نظم واعية ومستقلة بذاتها ومدركة لماهيتها. وإذا حدث ذلك فعلا وأصبح الذكاء الاصطناعي هو السيد الجديد للعلاقات الدولية، هل سوف يقبل البشر بآرائه وأفكاره بغض النظر عن اختلافاتهم؟”.
ويتابع: “بالطبع لا، فالصدام بين البشر حتمي والتدافعُ سنة كونية والاختلاف في مصدر القيم الإنسانية كبير، وهنا سوف يصطدم البشر مع الذكاء الاصطناعي، فهل يستطيع إقناعهم بالحكمة أم أنه سوف يمتلك من أدوات الإكراه والإجبار ما يستطيع به فرض إرادته على الجميع؟، وإذا حدث ذلك فهل يمكن اعتباره نجاحا للذكاء الاصطناعي أم شكلا آخر من أشكال الصدام الذي سعت البشرية لتجنبه فيما بينها ولكنها اجتمعت ولو مؤقتا ضد عدوها الجديد وهو الذكاء الاصطناعي، بل قد يطمع البشر في الحصول على قدرات الذكاء الاصطناعي هذه لأنفسهم وهي عادة البشر، فيزدادون قوة وتحكما وقد يكون هذا السيناريو هو الأقرب للواقع من سيطرة الذكاء الاصطناعي منفردا على النظام الدولي. فالتعديلات التي تجري حاليا على البشر بهدف تطويرهم كثيرة، تشمل ذرع شرائح إلكترونية في الأجساد والأدمغة البشرية بهدف ربطها بأجهزة الكمبيوتر والإنترنت ونظم الذكاء الاصطناعي، فتضيف إلى جانب قدرات البشر قدرات الذكاء الاصطناعي، هذا ما تسعى إليه العديد من شركات التكنولوجيا حول العالم وعلى رأسها شركة ‘نيورالينك’ التي يمتلكها رجل التكنولوجيا الشهير أيلون ماسك”.
ومما يخلص إليه خليفة أنه إذا استطاعت الثورة الصناعية الرابعة أن تقوم بترقية الآلات من خلال منحها سيطرة على ذاتها بأن تجعلها ذكية وقادرة على اتخاذ قراراتها بصورة مستقلة عن الإنسان، فإن الثورة الصناعية الخامسة تستهدف ترقية الإنسان نفسه، عبر طريقين رئيسيين، الأول من خلال منحه سيطرة أكثر على الآلات، بأن يتحكم في أجهزة إنترنت الأشياء والأجهزة ذاتية التشغيل فقط من خلال التفكير، والثاني من خلال منح الإنسان حرية أكثر للحركة في بيئته الصناعية الجديدة. فقد يستطيع الإنسان أن يسيطر على الآلات الذكية من خلال ربطها بالإنسان عبر الشرائح الذكية المزروعة في الأجساد والأدمغة البشرية، كتلك التي يسعى أيلون ماسك لزرعها في الأدمغة البشرية، حتى تمنحه صلاحيات التحكم في الأجهزة الذكية الموجودة بالمنزل أو العمل أو حتى الأسواق والمواصلات.
المصدر: العرب