تقنين الذكاء الاصطناعي

35

عبدالله الردادي

بعد عامين من العمل على مسودة مقترحات “قانون الذكاء الاصطناعي”، وافق المشرعون الأوروبيون، الأسبوع الماضي، على شروط التشريع التاريخي لتنظيم الذكاء الاصطناعي، والبدء في سَن نظام يقيّد تطوير هذه التقنيات. وافتخر مفوض الاتحاد الأوروبي بأن أوروبا هي أول قارة تضع قواعد واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، واصفاً القانون بأنه منصة انطلاق للشركات الناشئة والباحثين في الاتحاد الأوروبي لقيادة سياق الذكاء الاصطناعي العالمي؛ فما هذا القانون؟ وهل هو فعلاً في مصلحة الشركات المطوِّرة والمستخدِمة لتقنيات الذكاء الاصطناعي؟ ولماذا يسعى الأوروبيون إلى استحداثه؟

جاء هذا الاتفاق بعد سنوات من المناقشات بين دول الاتحاد وأعضاء البرلمان الأوروبي، وتمحور الاتفاق حول الطرق التي ينبغي بها “كبح” الذكاء الاصطناعي لجعله في خدمة مصلحة الإنسانية. وحتى الآن لم يتضح كامل تفاصيل هذا الاتفاق، إلا أن القانون سيركز في مجمله على نقطتين أساسيتين؛ أولاهما ما يُسمَّى بالأنظمة عالية المخاطر، وهي تلك التي يُعتقد أن لديها إمكانيات لإلحاق الضرر بالحقوق الأساسية، والصحة والسلامة والقانون، وسيكون علاج هذه الأنظمة بخضوعها لعمليات تقييم قبل وصولها إلى الأسواق الأوروبية. وستخضع أنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد تشكل أخطاراً محدودة لالتزامات شفافية، مثل الإفصاح عن المحتوى الذي يُنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي، وذلك للسماح للمستخدمين باتخاذ قرارات حول كيفية استخدامه.

النقطة الثانية ترتبط بأنظمة الذكاء الاصطناعي للأغراض العامة مثل “ChatGPT”، وستخضع هذه النماذج لمتطلبات الشفافية، مثل الامتثال لقوانين حقوق الطبع والنشر في الاتحاد الأوروبي، كما ستطالب بنشر ملخصات مفصلة للخوارزميات المستخدَمة. كما سيتعين على نماذج المؤسسات المصنفة على أنها عالية التأثير أو تشكل بعض المخاطر إجراء تقييمات دورية، وتقديم التقارير إلى المفوضية الأوروبية بشأن الحوادث الخطيرة، وضمان الأمن السيبراني.

ردة فعل الشركات كانت استباقية على هذا الاتفاق؛ فمنذ منتصف العام الحالي، أرسل نحو 150 مديرًا تنفيذيًا لشركات أوروبية رسالة مفتوحة إلى المفوضية الأوروبية أعربوا فيها عن قلقهم من الأنظمة التي تقيِّد الابتكار، موضحين أن هذه الأنظمة عادة ما تحوّل ميزانيات الشركات من الأنشطة الابتكارية وتوظيف المهندسين المختصين، إلى الأنشطة القانونية وتوظيف شركات المحاماة. والشركات التي أرسلت هذه الرسالة من كبريات الشركات الأوروبية، وتضم شركات كـ” إيرباص” و”سيمنس” و”رينو”، ومحتوى رسالتهم أن هذه القوانين سوف تضعف التنافسية الأوروبية نحو السيادة التقنية.

وأوروبا في الوقت الحالي تدرك تأخرها التقني مقارنة بمنافسيها، وتطمح إلى أن يكون الذكاء الاصطناعي فرصتها للحاق بركب التقدم التقني ومقارعة الولايات المتحدة والصين.

وأخشى ما تخشاه هذه الشركات أن تستهدف القوانين أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، وذلك بالخضوع لتقييمات المخاطرة التي قد تكون نسبية، أو تسجيل منتجاتهم لدى الاتحاد الأوروبي وتلبية مطالب الشفافية، مثل الكشف علناً عن أي بيانات محمية بحقوق الطبع والنشر المستخدمة في النماذج. ولأن مستقبل هذه الشركات على المحك، فقد لعبوا على وتر يؤثر كثيراً في الرأي العام الأوروبي، وهو أن تبقى أوروبا على الهامش، وأن هذه التشريعات (ككثير من سابقاتها) سوف تكون شديدة التعقيد، وسوف تقتل الشركات الشابة والمبدعة التي لا تمتلك القدرة على تحمل تكاليف شركات المحاماة. وجاء الرد أعنف من هذه الرسالة، فصرح أحد أعضاء البرلمان الأوروبي بأن هذه المحاولات ما هي إلا جماعات ضغط مكوَّنة من عدد قليل من الشركات الكبرى التي تريد الاستحواذ على شركات أخرى.

والاتحاد الأوروبي بدأ منذ أعوام لعب دور المشرّع العالمي؛ فهو أطلق قانون الخدمات الرقمية قبل أقل من عامين، وقاضى العديد من الشركات التقنية الأميركية مستنداً إلى احتياجها إلى سوقه، ولكنه الآن يريد إخضاع الذكاء الاصطناعي إلى توجهاته، وهو أمر أخطر مما يبدو عليه، وتصريح رئيسة المفوضية الأوروبية فيه دليل على ذلك؛ فقد صرَّحت بعد الاتفاق بأنها لحظة تاريخية ينقل فيها الذكاء الاصطناعي القيم الأوروبية إلى عصر جديد. وحيثما وُجد مصطلح «القيم الأوروبية» وُجدت المشكلات، هذه القيم التي تتحوّر في كل مرة بما يتناسب مع ما يريده الاتحاد الأوروبي، وهو مستند الأوروبيين في موقفهم من الشذوذ الجنسي، ومن موقفهم تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية، بل وحتى من موقفهم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة. وفي حال إخضاع القوانين الحاكمة للذكاء الاصطناعي لـ«القيم الأوروبية» فإن العالم موعود بخوارزميات ذكاء اصطناعي متقدمة ومنحازة تعطي العالم نتائج ومرئيات تتماشى مع النظرة الأوروبية دون غيرها، وللقارئ تخيُّل مدى اختلاف وجهات النظر بين الأوروبيين وبقية العالم تجاه قضايا وأفكار عديدة.

كل ذلك يشير إلى أن تقنين الذكاء الاصطناعي أمر قادم لا ريب، ويجب على الدول البدء فيه بشكل جدي، والدخول في تحالفات دولية تضمن أن تكون تشريعاته عادلة وتتوافق مع جميع الأفكار والتوجهات، والأهم ألا تعارض هذه القوانين الثقافات المحلية لمجرد أنها لا تتوافق مع التوجهات الغربية، وإلا فإن مخرجات الذكاء الاصطناعي في المستقبل ستكون شبيهة بالتوجهات الغربية، التي لها آيديولوجيا محددة تخدم مصالحها فقط، وصوت واحد لا يقبل النقاش.

المصدر: الشرق الأوسط

اترك رد

Your email address will not be published.