السبب وراء تفوق “الصين” على “أميركا” في تنظيم قواعد “الذكاء الاصطناعي”
AI بالعربي _ متابعات
في وقت يشعر القادة الأميركيون بالقلق من أن الصين قد تتفوق في نهاية المطاف على الولايات المتحدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، فإن بكين تتقدم بالفعل على واشنطن في سَنّ قواعد للتكنولوجيا الجديدة. وأجرى المسؤولون الصينيون جولةً ثانية من مشاورات مكثفة قبل أسبوع لتنظيم الذكاء الاصطناعي التوليدي، بينما تقف إدارة الرئيس جو بايدن وراء كل من الحلفاء والخصوم في وضع حواجز للحماية من أخطار الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يطرح سؤالاً مثيراً في واشنطن وهو: إذا كان بإمكان الصين أن تكون الأولى في مجال حوكمة الذكاء الاصطناعي، فسيمكنها وضع التصورات والمشاريع الخاصة بتلك المعايير واللوائح على مستوى العالم، وتشكيل أسواق مربحة ومرنة بما يحفز نموها ويقوض الدور المهيمن للولايات المتحدة، فلماذا تأخرت واشنطن وسبقتها الصين؟، بحسب ما أفاد موقع The Independent عربية.
لا نهج عالمي
في الوقت الذي تبدو فيه البلدان الأكثر تقدماً في مراحل مختلفة من تطوير نهجها لوضع لوائح وقواعد تشغيل الذكاء الاصطناعي، واتخاذ كل منها وجهات نظر مختلفة حول أفضل السبل للقيام بذلك، يطالب بعض مطوري الذكاء الاصطناعي وقادة الأعمال في مجال التكنولوجيا بوقف طوعي لتطوير الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر، لإتاحة الفرصة لعملية التنظيم للحاق بركب التطور السريع لتلك التكنولوجيا.
ومع ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يتم التوصل إلى إجماع حول أفضل السبل لتنظيم الذكاء الاصطناعي بطريقة تسمح بتقدم الابتكار، وفي الوقت ذاته تقليص احتمالية استخداماته الضارة. ويرجع أحد أبرز الأسباب وراء ذلك، إلى الرغبة المحمومة لدى بعض الدول في أن تكون في طليعة مطوري هذه التكنولوجيا الثورية التي لم يسبق لها مثيل، والتي ستصبح خلال سنوات قليلة هي الأساس الذي تقوم عليه مختلف أوجه الحياة، وترى هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة والقائمون على صناعة التكنولوجيا فيها، أن التنظيم يعيق التطور السريع للذكاء الاصطناعي، وأن ريادة الصين في هذا المجال تعد ميزة للولايات المتحدة.
وعلى رغم أن إدارة بايدن تقف وراء كل من الحلفاء والخصوم في بناء حواجز حماية من أخطار الذكاء الاصطناعي، يتحدث المسؤولون في واشنطن باستمرار عن منح حقوق للمستخدمين، ويحثون الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا الرائدة في هذا المجال على التخفيف من أخطار الذكاء الاصطناعي، في حين أن الصين والاتحاد الأوروبي تقدمان بالفعل الحقوق واللوائح التنظيمية وتقللان من الأخطار المحتملة للذكاء الاصطناعي.
رؤية بكين
على العكس من موقف الولايات المتحدة، تمتلك الصين رؤية مختلفة، تقودها دوافع وأسباب عدة، أولها أن القادة في بكين لديهم عقيدة راسخة تتمثل في أنه بعد التخلف عن الغرب خلال الثورات الصناعية المتتالية، لا ينبغي السماح بالإذلال مرة أخرى في عصر الذكاء الاصطناعي، وثانيها أنه إذا كان بإمكان الصين أن تكون الأولى في مجال حوكمة الذكاء الاصطناعي، فسيمكنها خلال سنوات قليلة إبراز تلك المعايير واللوائح على مستوى العالم، وتشكيل أسواق مربحة ومرنة.
لكن السبب الأهم هو أن التنظيم السريع لعمل الذكاء الاصطناعي يحقق لبكين ثلاثة أهداف أساسية، وهي: توفير سيطرة حكومية مركزية أكثر صرامة على النقاش العام، وبناء كيانات مؤسسية هجينة منسجمة مع الحزب الشيوعي الصيني، وتعزيز الثقة في منتجات الذكاء الاصطناعي الصيني وتطبيقاتها والتي تعد بالفعل من بين أعلى المستويات في العالم، مما يحفز استيعاب المستهلك لها، ويدفع النمو الاقتصادي في البلاد إلى الأمام، حيث يشير تقرير لشركة “ماكينزي” الأميركية إلى أن الصين يمكن أن تضيف 600 مليار دولار إلى اقتصادها بحلول عام 2030 بعدما شيدت أساساً قوياً لاقتصاد الذكاء الاصطناعي.
الثقة بالمنتج الصيني
وتتمتع السلطات الصينية الآن بخبرة ست سنوات في بناء المعرفة التنظيمية للذكاء الاصطناعي منذ أن أطلقت خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل القادم في عام 2017، ويستخدم الصينيون التنظيم القانوني كشكل من أشكال السياسة الصناعية، إذ تعتقد بكين أن قواعد عمل الذكاء الاصطناعي الواضحة، من شأنها أن تساعد الجمهور على الثقة بالذكاء الاصطناعي، كما يقبل قادة الحزب الشيوعي الصيني أنه يجب على الجمهور دعم الذكاء الاصطناعي والتمتع بفوائده، لتقليل الاضطراب الاجتماعي وفقاً لتقرير نشره موقع “أكسيوس” الأميركي.
وتقول هيلين تونر، مديرة المنح لمركز “جورج تاون” للأمن والتكنولوجيا الناشئة، إنه “لا يمكن بناء نظام بيئي حيوي للذكاء الاصطناعي إذا لم يثق المستهلكون في منتجات الذكاء الاصطناعي بما يكفي لاستخدامها”.
وعلى رغم الاختراقات التي حققتها الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي خلال الأشهر القليلة الماضية، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي على واجهات أجهزة كمبيوتر المستهلك منتشر على نطاق واسع في الصين، فعلى سبيل المثال يستخدم روبوت المحادثة من ميكروسوفت الذي يركز على الصين “زياوايس”، أكثر من 660 مليون شخص في الصين، وتراهن بكين على أن جهود تنظيم الذكاء الاصطناعي ذات الخطى الأسرع، ستكون دافعاً لمزيد من الاستيعاب.
كيف تصدرت الصين؟
أنشأ مجلس الدولة الصيني للمرة الأولى “خطة تطوير الجيل القادم للذكاء الاصطناعي” في عام 2017، وفي عام 2021 تم نشر المبادئ التوجيهية الأخلاقية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، غير أن مات شيهان، خبير حوكمة الذكاء الاصطناعي الصيني في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي، يشير إلى أن “الجهود التنظيمية الأولى لبكين كانت مدفوعة بالخوف من سلبيات الذكاء الاصطناعي، وقد تعلمت الكثير على مدار ست سنوات، فقد كانت هناك فرصة ضئيلة للغاية في تنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل صحيح تماماً من المرة الأولى، لكن بعد سنوات برز أحد المنظمين ليكون المنظم الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي، وهي إدارة الفضاء الإلكتروني في الصين”.
واعتادت السلطات الصينية طرح القواعد كل بضعة أشهر منذ عام 2021، بما في ذلك قانون الخصوصية الوطني، وقانون حماية المعلومات الشخصية، ومدونة أخلاقيات الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، والتي تحدد المتطلبات التي توفرها منتجات الذكاء الاصطناعي الجديدة في كل شيء بدءاً من تحسين رفاهية الإنسان إلى التحكم والمصداقية، ومنذ عام 2022، يتمتع مستخدمو الذكاء الاصطناعي في الصين بحقوق الشفافية، مثل الحق في إيقاف تشغيل خدمة توصية خوارزمية، أو الحق في معرفة متى يتم تزويدهم بالمحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي.
كما أصدرت بكين عام 2022 قواعد ما يسمى “التركيب أو التوليف العميق” للحماية من التزييف العميق، لكن في حين أنها لم تتوقع الإنجاز الذي حققه “تشات جي بي تي” المستند إلى النصوص، إلا أن هذه القواعد وفرت بداية قوية في صياغة لوائح جديدة تعالج أخطار الذكاء الاصطناعي التوليدي المستند إلى النصوص.
وفيما تحكم الآن هذه اللوائح ما تفعله الشركات في الصين بالذكاء الاصطناعي، فإن قلة قليلة في الغرب يعتقدون أنها ستقيد السلطة المطلقة للحكومة الصينية بأي طريقة حقيقية، فعلى رغم أن بكين منحت حقوقاً لمستخدمي الذكاء الاصطناعي الصينيين، مثل تحدي رفض مقابلة من خوارزمية خاصة بالتوظيف، إلا أن هناك فرصة ضئيلة لممارسة هذه الحقوق على نطاق واسع، وفقاً لما يقوله راسل والد، مدير السياسات في مركز جامعة ستانفورد للذكاء الاصطناعي، إذ غالباً ما لا تمتلك الشركات والمؤسسات الحكومية الصينية القدرة أو الرغبة في تقديم الحقوق الفردية بهذه الطريقة.
التسارع الأخير
ومع ذلك تقدمت الصين خطوة أخرى إلى الأمام خلال الأسبوع الماضي، حين اختتمت إدارة الفضاء الإلكتروني الصينية مشاوراتها بشأن مشروع التدابير الإدارية لخدمات الذكاء الاصطناعي التوليفية، حيث نص مشروع لائحة القانون على أن منتجات الذكاء الاصطناعي الجديدة المطورة في الصين يجب أن تخضع لـ “تقييم السلامة” قبل إصدارها إلى الجمهور، وتتطلب اللائحة على وجه التحديد، أن يكون المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي صادقاً ودقيقاً، ويحظر المحتوى الذي يقوّض سلطة الدولة أو يحتوي على دعاية إرهابية، أو متطرفة، أو عنف، أو معلومات فاحشة وإباحية، أو كراهية عرقية، أو تمييز، أو أي محتوى آخر يمكن أن يعطل الاقتصاد والمجتمع.
وتطلب اللائحة من مقدمي خدمات الذكاء الاصطناعي اتخاذ تدابير لمنع توليد معلومات خاطئة وتجنب المحتوى الضار، وإذا تم إنشاء محتوى غير لائق، يجب على مقدمي الخدمة تحديث تقنيتهم في غضون ثلاثة أشهر لمنع إنشاء محتوى مشابه مرة أخرى، وقد يتم تغريم مقدمي الخدمات الذين لا يمتثلون للوائح أو تعليق خدماتهم أو إخضاعهم لتحقيقات جنائية.
وعلاوةً على ذلك، توجد لدى الصين تشريعات إقليمية بشأن الذكاء الاصطناعي، ففي 6 سبتمبر (أيلول) 2022، نشرت حكومة شنتشن أول لائحة للذكاء الاصطناعي على مستوى المدينة في الصين (لوائح تعزيز صناعة الذكاء الاصطناعي في منطقة شنتشن الاقتصادية الخاصة)، كما نشرت شنغهاي قانون المقاطعة بشأن تطوير الذكاء الاصطناعي في 22 سبتمبر (لوائح شنغهاي بشأن تعزيز تنمية صناعة الذكاء الاصطناعي)، والذي دخل حيز التنفيذ في 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2022.
مبرر واشنطن
لكن طريق الصين إلى تعزيز الثقة في الذكاء الاصطناعي، يأتي مصحوباً بالمتاعب والعبء على مزودي الذكاء الاصطناعي الصينيين كما تشير وسائل إعلام أميركية، لأنه يتطلب منهم تصفية المحتوى وإجراء تقييمات أمنية كاملة لدعم سيطرة الحزب الشيوعي قبل إطلاق المنتجات الجديدة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تباطؤ تطوير الابتكار المتسارع في الذكاء الاصطناعي الذي تشير إليه الشركات الأميركية كمبرر لموقف واشنطن التنظيمي الأكثر تراخياً.
وتعكس مواقف وتحركات إدارة الرئيس بايدن هذا التراخي بوضوح، ففي 4 أكتوبر 2022، نشر مكتب البيت الأبيض لسياسة العلوم والتكنولوجيا مخططاً لتطوير واستخدام ونشر الأنظمة المؤتمتة (مخطط قانون حقوق الذكاء الاصطناعي) وهو مخطط غير ملزم يسرد خمسة مبادئ تهدف إلى تقليل الضرر المحتمل من أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقبل ذلك، نشر المعهد الوطني الأميركي للمعايير والتكنولوجيا المسودة الثانية لإطار عمل إدارة أخطار الذكاء الاصطناعي في 18 أغسطس (آب) 2022 لمراجعة وتنقيح الإصدار الأصلي الصادر في مارس (آذار) 2022 الذي يستند إلى ورقة مفاهيم تعود إلى ديسمبر (كانون الأول) 2021، لكن إطار عمل إدارة أخطار الذكاء الاصطناعي بشكل عام، استهدف مساعدة الشركات الأميركية التي تطور أو تنشر أنظمة الذكاء الاصطناعي على تقييم وإدارة المخاطر المرتبطة بهذه التقنيات، وهي تتألف من إرشادات وتوصيات طوعية غير ملزمة، ولا يجب فهمها بشكل صريح على أنها لائحة، كما يقول العديد من المختصين في الذكاء الاصطناعي.
صراع المستقبل
وتتوقع هيلين تونر في مركز “جورج تاون” للتكنولوجيا الناشئة أن اللوائح الصينية ستدفع شركاتها إلى الاعتماد على تطبيقات إدارة العلاقات التجارية والأعمال بين الشركات (بيزنس تو بيزنس) في حالات استخدام محدودة أكثر، ضمن حواجز حماية محكمة، وستكافح الصين من أجل دفع حدود مجال الذكاء الاصطناعي إلى الأمام. لكن على رغم أن أولوية الصين القصوى هي تقليل الاضطراب الاجتماعي أثناء نشر الذكاء الاصطناعي، فقد تعلمت بكين أيضاً من العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على شركة “هواوي” الصينية العملاقة ومن ضوابط تصدير الرقائق الأميركية، أنها بحاجة إلى أن تكون مستعدة للابتكار بمفردها من دون الاعتماد على الغرب.
وتعتقد بكين أنه من خلال التحرك بسرعة بشأن التنظيم وإرساء قواعد وقوانين، فإنها ستنشئ أساساً لصادرات منتجات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي عبر جنوب الكرة الأرضية والبلدان المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، ما يجعلها قادرة على تقويض النفوذ الأميركي في هذا المجال على الساحة العالمية في المستقبل، بينما تراهن واشنطن على أن قدرتها المتزايدة عبر شركاتها العملاقة في تسريع خطى الابتكار، سيبقي ويرسخ نفوذها العالمي في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لعقود مقبلة.