الذكاء الاصطناعي في مرحلة ما بعد المدن الذكية
Federico Cugurullo, Federico Caprotti, Matthew Cook, Andrew Karvonen, Pauline McGuirk, and Simon Marvin
المقدمة: الذكاء الاصطناعي في الحياة داخل المدن
يظهر الذكاء الاصطناعي كميزة مؤثرة في حياة وتخطيط وحوكمة مدن القرن الحادي والعشرين. فبعد أن كان مقتصرًا على عالم الخيال العلمي والتجارب التكنولوجية الصغيرة، دخل الذكاء الاصطناعي الآن عصر التنفيذ الذي يتميز بالتوزيع الجماعي ونطاق واسع من التطبيقات في العالم الحقيقي. لاحظ المهندسون المدنيون أن العديد من هذه التطبيقات يمكن العثور عليها في المدن، التي تعدُّ أهدافًا جذابة لتنفيذ الذكاء الاصطناعي، نظرًا لتراكم البنية التحتية المتقدمة تكنولوجيًا “الضرورية لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المعقدة” وارتفاع الكثافات السكانية التي تنتج طلبًا على تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة، فضلًا عن تحقيق عائد استثماري كافٍ.
خلال تطور الذكاء الاصطناعي، اتخذ أشكالًا متعددة في الحياة المدنية. بعض هذه الأشكال باتت مرئية وملموسة في العديد من المدن. تُنتج شركات مثل “Tesla” و”Volvo” سيارات وشاحنات تعمل بالذكاء الاصطناعي بكميات كبيرة، ولم تعد مقتصرة فقط على مرافق الاختبار البعيدة، بل أصبحت تُباع وتُستخدم بشكل متزايد في الشوارع العامة. تمثل المركبات الذاتية القيادة تقنية متقدمة تُعيد تشكيل أساليب التنقل المدني ولوجستيات سلاسل الإمداد التي تدعم الاقتصاديات الحضرية.
تعمل الروبوتات، بدءًا من الأندرويد حتى الطائرات المسيرة، في مجموعة متنوعة من القطاعات المدنية، حيث تؤدي وظائف محددة في الأماكن العامة. حاليًا، تتفاعل الروبوتات الخدمية مع العملاء في المتاجر والمطاعم والمطارات. وفي الوقت نفسه، يزداد عدد الطائرات المسيرة التي تقوم بتسليم البضائع في المدن وتراقب البيئة العمرانية بشكل مستمر. لقد توسعت الحياة غير البشرية في المدن، وتُعتبر الروبوتات المدنية أحدث إضافة لها.
تتجلى جوانب أخرى من الذكاء الاصطناعي في المدن، مثل ” أنظمة إدارة المدن الذكية”، بشكل أقل وضوحًا وملموسة، إلا أن تأثيرها على الحياة الحضرية قد يكون كبيرًا. تُعتبر أنظمة إدارة المدن الذكية أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة تعمل على منصات رقمية واسعة، قادرة على إدارة مجالات متعددة مثل النقل والسلامة والصحة والمراقبة البيئية والتخطيط في الوقت الحقيقي.
يظهر هذا النوع من الذكاء الاصطناعي بشكل خاص في دول مثل الصين وماليزيا والسعودية. تُستخدم كاميرات المراقبة “CCTV”، التي غالبًا ما تكون مزودة بتقنية التعرف على الوجه، كعيون لأنظمة إدارة المدن الذكية لمراقبة الأماكن العامة وتعزيز الوعي بالوضع. كما ترتبط التحليلات التنبئية بهذه الأنظمة لتوقع الظروف المستقبلية وإدارة الخدمات العامة بشكل استباقي.
إضافة إلى ذلك، دخلت مجموعة واسعة من أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى حياتنا اليومية عبر التطبيقات وبرامج الكمبيوتر. ورغم أننا لا نستطيع لمسها، فإن تأثيراتها واضحة: مثل تطبيقات تتبع الاتصال التي تحدد الأشخاص الذين يجب أن يُعزلوا في المنزل لتلبية متطلبات الحجر الصحي، أو الخوارزميات التي تحدد من يُؤهل للحصول على قرض سكني. هذه الوكالات البرمجية المدنية موجودة في كل مكان، ولها تأثير ملحوظ على حياتنا على الرغم من عدم كونها ملموسة.
المركبات الذاتية القيادة، والروبوتات، وأنظمة إدارة المدن الذكية، هي حاليًا الفئات الأكثر بروزًا للذكاء الاصطناعي المدني. يشير مفهوم الذكاء الاصطناعي المدني إلى الذكاءات الاصطناعية التي تعمل وتكتسب شكلًا ماديًا في المساحات المدنية، والتقنيات المدنية، والبنى التحتية المدنية. من ناحية، يعكس الذكاء الاصطناعي المدني القدرات الأساسية الموجودة عمومًا في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: جمع البيانات من خلال استشعار البيئة المحيطة، وتفسيرها من خلال استخراج المفاهيم مما يتم استشعاره “ابتداءً من التوقف عندما ترى السيارة ذاتية القيادة اللون الأحمر في إشارة المرور، إلى اكتشاف المتسلل عندما يستشعر طائرة المراقبة المنزلية وجود شخص غريب”، وبالتالي يظهر شكلًا بدائيًا من التفكير، والتعامل مع عدم اليقين، والتصرف بشكل عقلاني بطريقة مستقلة دون توجيه بشري. من ناحية أخرى، تؤكد فكرة الذكاء الاصطناعي المدني على المدنية في الذكاء الاصطناعي، أو بعبارة أخرى، جودة الذكاء الاصطناعي كونه مدنيًا. وتتجلى هذه الجودة في ثلاثة أبعاد.
أولًا، يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى المدينة من أجل زيادة وتحسين ذكائه. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتطور فقط من خلال جمع البيانات. كما يُشار بشكل مختصر إلى أنه “لا توجد بيانات مثل المزيد من البيانات.” من حيث الكمية، تعد المدن مولدات ضخمة للبيانات، لأنها الموطن الرئيسي للمجتمعات البشرية، حيث تحدث أنشطة إنسانية مكثفة ومتنوعة. من حيث الجودة، تقدم المدن أفضل البيانات الممكنة ليتم التعلم منها: بيانات الحياة الواقعية، على عكس مجموعات البيانات التي تم تنسيقها وتنظيفها بعناية والتي يتم نمذجتها على الكمبيوتر. يتعلم الذكاء الاصطناعي المدني في بيئته الطبيعية من خلال مراقبة الديناميات الفوضوية للبيئات المدنية الواقعية. وحياة الذكاء الاصطناعي المدني تتقاطع مع حياة المدن، لأن تقنيات الذكاء الاصطناعي مصممة ومبرمجة للتفاعل مع البشر والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث بشكل أساسي في المساحات المدنية، وبالتالي تنحرف عن العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة، على سبيل المثال، لأتمتة الزراعة في المناطق الريفية أو تلك الموجودة تحت البحر وفي الفضاء الخارجي. ثانيًا، تحتاج معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى قاعدة مادية لتعمل، وجميع أنظمة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى مساحات للعمل فيها؛ لأن أنشطتها تحدث دائمًا في مكان ما، سواء كان ذلك في طريق تقود فيه سيارة ذاتية القيادة أو شقة تم حساب قيمتها السوقية بواسطة خوارزمية. تمنح المدينة الذكاء الاصطناعي تكرارًا ماديًا، مما يضعه في المشهد الفيزيائي. ثالثًا، يتم دمج الذكاء الاصطناعي في حوكمة المدن، وله القدرة على خلق المدينة المستقلة حيث الوكالة البشرية قد تطغى بواسطة وكالة الذكاء الاصطناعي المدني. وتشير هذه المسيرة إلى نوع مختلف تمامًا من المدينة مقارنة بما هو موجود اليوم، وتطرح تساؤلات حول الفرص والعيوب التي تقدمها عملية طرح الذكاءات الاصطناعية المدنية المعاصرة وتأثيرها المحتمل على مستقبل المدن.
هدف هذه الورقة هو دراسة طبيعة المدينة في عصر الذكاء الاصطناعي المدني بشكل نقدي. نحن نسعى بشكل أكثر تحديدًا إلى تسليط الضوء على كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي المدني على حياة وحوكمة وتخطيط المدن. يركز البحث على تقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة التي يمكن العثور عليها بالفعل في المدينة المعاصرة، وإن كان ذلك على نطاق محدود، في محاولة لالتقاط التحولات المدنية المحتملة التي ستحدد مدينة المستقبل. نقترح أن المدينة المتأثرة بالذكاءات الاصطناعية، والتي نسميها المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تختلف في النظرية والممارسة عن المدينة الذكية. نطور حجتنا في ثلاث خطوات. أولًا، نقارن الخصائص الأساسية للمدينة الذكية مع خصائص المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. ثانيًا، نستخدم هذه المقارنة كخطوة للتعبير عن القضايا الرئيسية المرتبطة بالمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، من خلال ربط كل قضية بسؤال نقدي، لتوليد النقاش وتحفيز البحث المستقبلي في دراسات المدن. ثالثًا، نطرح أسئلة رئيسية عن مدى تأثير الذكاء الاصطناعي في تشكيل مدن مستقلة وكيف يمكن أن تختلف هذه عن المدن الذكية، معبرين عن الشك في الحاجة إلى دمج الذكاء الاصطناعي في شريان الحياة للمدينة المعاصرة.
المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضد المدينة الذكية
تروج وسائل الإعلام أحيانًا لانطباع خاطئ عن الذكاء الاصطناعي كأنه تقنية متطورة مرتبطة بسرديات الابتكار. في الواقع، كان الذكاء الاصطناعي، سواء كتقنية أو كمجال بحث، موجودًا لسنوات عديدة، ويمكن تتبع بداياته إلى الخمسينيات. كل ما هو جديد في الوقت الحاضر هو تنفيذ على نطاق واسع لتقنية الذكاء الاصطناعي وتداخلها في المساحات والبنى التحتية المدنية، من خلال الذكاءات الاصطناعية المدنية “مثل المركبات المستقلة، والروبوتات، وأدمغة المدن، وعملاء البرمجيات المدنية” التي تُطبق في حياة المدن وإدارتها وتخطيطها، مما يولد نوعًا جديدًا من المدن: المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
يمتلك الذكاء الاصطناعي ماضيًا معقدًا وحاضرًا أكثر تعقيدًا. نحن نواجه سلسلة من الابتكارات التكنولوجية التي استمرت لعقود والتي أصبحت مؤخرًا سائدة، ومن المهم في دراسة المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي الاعتراف بسلالة الذكاء الاصطناعي، وتحديد ما هو جديد وما كان له فترة أطول من النضج. المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي هي تاريخ ومستقبل في آنٍ واحد، وأوضح أسلافها هي المدينة الذكية التي تشكل نقطة البداية لهذا القسم. نهدف هنا إلى مقارنة الممارسات التقليدية وفهم المدينة الذكية مع الأشكال الناشئة للعيش المدني، والإدارة المدنية، والتخطيط المدني المتأثر بالذكاء الاصطناعي. استخدامنا لمصطلح “ضد” يهدف إلى رسم مقارنة، بدلًا من التباين. الذكاء الاصطناعي والذكاء مختلفان، لكنهما ليسا متعارضين.
نقارن بين المدينة الذكية والمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي من خلال تسع فئات: التكنولوجيا، والفعل، والمكان، والفاعلية، والثقافة، والشخصية، والحوكمة، والوقت، والمادية. أولًا، نركز على التكنولوجيا الأساسية التي كانت تدفع المدينة الذكية لأكثر من عقدين من الزمن والتي تدعم الآن المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. ضمن هذه الفئة، نحدد إنترنت الأشياء “IoT” كمكون تكنولوجي رئيسي لمبادرات المدن الذكية. وإنترنت الأشياء هو مصطلح شامل يشمل العديد من التقنيات الذكية مثل أجهزة الاستشعار المدمجة في الأشياء اليومية والبيئة المبنية، والتي تنتج كميات كبيرة من البيانات، ما يسمى بالبيانات الضخمة، التي تتم مشاركتها على الفور عبر الشبكات الرقمية بواسطة الكائن نفسه. وترفع المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي إنترنت الأشياء إلى المستوى التالي مع ذكاء اصطناعي للأشياء “AIoT” المشكل حديثًا .يبني مفهوم ذكاء اصطناعي للأشياء على مفهوم إنترنت الأشياء لوصف التقنيات الناشئة القادرة على العمل بالإضافة إلى الاستشعار. لا تزال أجهزة الاستشعار والبيانات الضخمة والشبكات الرقمية مكونات أساسية، حيث إن الذكاء الاصطناعي المدني، مثل السيارات ذاتية القيادة والروبوتات وأدمغة المدينة، تحتاج إلى أجهزة استشعار “كاميرات، على سبيل المثال” لإدراك البيئة المحيطة وتنتج بيانات ضخمة تتم مشاركتها رقميًا ثم توسطها منصات رقمية. ما هو مختلف هو أن ذكاء اصطناعي للأشياء يجلب الذكاء الاصطناعي وقدراته الرئيسية إلى الأشياء والمساحات العادية. هذا يعني أن القدرة على استخراج المفاهيم والتصرف بشكل مستقل “وهي القدرة التي لا يمتلكها إنترنت الأشياء” يتم غرسها في أشياء جامدة سابقًا موجودة في منازلنا ومكاتبنا والبنى التحتية المدنية.
تشير الفئة الثانية، وهي “الفعل”، إلى ما تفعله التكنولوجيا ذات الصلة. لفهم هذا الجانب من مقارنتنا، نستند إلى فلسفة بيونغ تشول هان، الذي يشير إلى أن إنترنت الأشياء لا يروي روايات، بل يقوم ببساطة بالعد. هنا يكمن الاختلاف الأساسي بين المدينة الذكية والمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. في المدينة الذكية، يعتمد إنترنت الأشياء على الحسابات، حيث يقيس ويفرز كميات معينة من الظواهر المدنية، مثل استهلاك الطاقة في مبنى أو عدد الركاب في مترو الأنفاق. وتظهر النتائج عادةً في شكل أرقام: بيانات كمية تُقدم للتفكير والتدخل البشري. أما في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، فتوجد ذكاءات اصطناعية متعددة قادرة على إنتاج روايات. هذه الرواية تشرح لماذا وكيف تحدث أشياء معينة في المدينة. على سبيل المثال، تستخدم تقنية “Palantir” التحليل التنبؤي للبيانات المدنية لتقديم تفسيرات حول من قد يرتكب جريمة ومتى وأين. ومع أن هذه الروايات ليست قصصًا كاملة، فإنها تُفسر وتُوسع من قبل أصحاب المصلحة (مثل ضباط الشرطة) الذين يتخذون قرارات بناءً عليها.
على عكس البشر، لا يُعتبر الذكاء الاصطناعي كيانات واعية، كما يتضح من مثال “ChatGPT”، الذي يمكنه إنتاج نصوص مفصلة دون فهم معانيها. ومع ذلك، حتى إن كان فاقدًا للوعي وغير قادر على التفكير في معنى أفعاله، فإن الذكاء الاصطناعي المدني يقوم بأفعال تحمل قيمًا أخلاقية. من ناحية أخلاقية، تؤكد الدراسات الحديثة أن العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي تواجه تحديات معقدة في تحديد ما هو صواب أو خطأ، عادل أو غير عادل، كما هو الحال في التقنيات التنبئية التي تحدد المشتبه بهم أو في السيارات ذاتية القيادة التي يتعين عليها توزيع الضرر في حال وقوع الحوادث. لم تكن هذه الديناميكيات الأخلاقية موجودة في مبادرات المدن الذكية التقليدية، حيث كانت الأسئلة الأخلاقية المعقدة تُترك بالكامل للبشر.
تشير الفئة الثالثة من المقارنة إلى موقع تشغيل التقنيات الذكية والذكاء الاصطناعي، وهي مسألة ترتبط أساسًا بالمكان. هناك العديد من الأدلة على استخدام التكنولوجيا الذكية في المدن حول العالم. ومع ذلك، هناك جانب غامض لهذا الانتشار المكاني. غالبًا ما تُركّب التقنيات الذكية، رغم وجودها في المدن العادية، في أماكن محصورة أو في بنى تحتية منفصلة عن التفاعل البشري. على سبيل المثال، تعمل الشبكة الذكية، التي تُعتبر سمة بارزة للمدينة الذكية، تحت سطح المدينة وفي داخل البنى التحتية، بعيدًا عن أنظار السكان المحليين. وبالمثل، تميل أنظمة النقل الآلي إلى العمل في أماكن محدودة تحت الأرض، خالية من البشر والمركبات التقليدية. لكن الوضع يختلف في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث تعمل روبوتات الخدمة في الصفوف الأمامية، وتتفاعل مباشرة مع العملاء. وتتواصل الطائرات بدون طيار والمساعدون الرقميون مع الأشخاص في بيئاتهم المنزلية. كما تتجول السيارات ذاتية القيادة في مساحات مفتوحة حيث يمكن للجميع الوجود، مما يتيح حدوث أي شيء. في هذا السياق، يتقاطع مكان الذكاء الاصطناعي المدني مع مكان الحياة البشرية دون وجود حواجز.
رابعًا، نركز على كيفية عمل التكنولوجيا في المدينة الذكية والمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مع التركيز على مسائل القدرة الذاتية. هنا يوجد فرق أساسي بين التشغيل الآلي والاستقلالية. التشغيل الآلي، كما يشير بورديو، يدور حول “العمليات المتكررة” التي تكون “ثابتة وآلية”. نلاحظ هذا في المدينة الذكية، حيث تقوم الآلة دائمًا بما تمت برمجتها للقيام به، وتكرر نفس الإجراءات باستمرار. يتبع القطار الآلي في نظام النقل السريع دائمًا نفس المسار ولا يمكنه مغادرة مساره. والضوء الذكي الحساس للحركة الذي يتم تشغيله تلقائيًا عند مرور شخص ما، لا يمكنه الانحراف عن مسار العمل المبرمج هذا. إنه ملزم باتباع قواعد صارمة يحددها المهندسون البشريون وعلماء الكمبيوتر. تختلف أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية المستقلة. عندما يدخل الذكاء الاصطناعي حيز التنفيذ، “نتنازل طواعية عن بعض من قدرتنا على اتخاذ القرار للآلات”. بناءً على هذه الشروط، الاستقلالية هي القدرة على اتخاذ القرارات بشكل مستقل وهذا ما نلاحظه في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، تتخذ السيارة ذاتية القيادة قرارات ذات طبيعة جغرافية لتحديد المسار الذي يجب اتخاذه، ويوصي روبوت الخدمة في المتجر بمنتجات مختلفة لعملاء مختلفين بعد الاستماع إلى تفضيلاتهم الفردية. في هذه الحالات، يفسح التحديد المجال للأداء، وهذا هو المكان الذي تبدأ فيه المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في إظهار قدرة ذاتية لم تكن موجودة أبدًا في المدن الذكية. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن جودة استقلالية الذكاء الاصطناعي المدني لا تعني انفصالًا تامًا عن البشر. في الواقع، من منظور مفاهيمي، هو عكس ذلك تمامًا. يمكن للذكاء الاصطناعي المدني بالفعل اتخاذ قرار معين بشكل مستقل، ولكن هذا القرار سيتأثر حتمًا “وبالتالي يكون متحيزًا” بالقرارات السابقة التي اتخذها الإنسان، لأن هذه آلات مدربة على مجموعات بيانات كبيرة تعكس التجارب البشرية السابقة. بهذا المعنى، قد يكون عمل الآلة في اتخاذ القرار مبتكرًا، في حين أن قرارها يمكن أن “يردد الأيديولوجيات والأنظمة الحالية” وبالتالي يكون محافظًا.
خامسًا، وبشكل متصل، تؤكد نقطتنا الخامسة على الجوانب الثقافية للمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مقارنة بالمدينة الذكية. بدأ مصطلح “المدينة الذكية” في التداول في أواخر التسعينيات، وفي ذلك الوقت كان معناه غامضًا، حيث كان مجالًا متخصصًا لم يسمع به سوى عدد قليل من صانعي السياسات المدنية والمواطنين. بعد عشر سنوات، حتى في مستوطنة مدنية متطورة مثل مدينة مصدر في أبو ظبي، المليئة بالتكنولوجيا الذكية في كل مبنى، بالكاد يستطيع الناس فهم معنى الذكاء. اليوم، يضرب الذكاء الاصطناعي على وتر مختلف. من وجهة نظر ثقافية، الذكاء الاصطناعي شائع. قد لا يعرف الناس كيف يتم إنشاء الكيانات الذكية اصطناعيًا، لكنهم يدركون أن الذكاء الاصطناعي موجود في هواتفنا ويتم استحضاره عندما يقول شخص ما “Hello, Alexa!” أو “OK Google” و”Hey Siri!”. وبالمثل، ليس سرًا أن الذكاء الاصطناعي يقف وراء صناعة الأفلام الرائجة، وأن العديد من الأطفال يكبرون وهم يلعبون ضد الذكاء الاصطناعي أو يتعاونون معه في ألعاب الفيديو. في جوهره، على عكس الذكاء، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من المشهد الثقافي للقرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، تعود جذور خياله إلى القرن الماضي على الأقل مع الكتب والأفلام الشعبية مثل سلسلة مؤسسة أسيموف و”2001: A Space Odyssey” لكوبريك. في الوقت الحاضر، يعرض كثير من الروايات التي تتمحور حول الذكاء الاصطناعي، مثل الروايات الأكثر مبيعًا لسيشين ليو وكازوو إيشيجورو، صورًا خيالية لأجهزة ذكاء اصطناعي مستقلة وواعية تجذب خيال الناس حول العالم. يمكن القول إنه بسبب هذا الجانب الشعبي للذكاء الاصطناعي يتم قبول عدد من أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية، وبالتالي تصبح بسرعة جزءًا من الحياة اليومية في المدن.
سادسًا، هناك جانب مترابط يتعلق بالشخصية. بالعودة إلى أفكار بورديو، نجد أن عملية التشغيل الآلي تميل إلى “تقليل دور الشخصية… لتحقيق الانتظام والتكرار”. تتماشى تأملات بورديو مع طبيعة التقنيات الذكية الآلية. فما هي شخصية المستشعر أو الشبكة الذكية؟ لا شيء. فهذه التقنيات، بحكم تصميمها، لا تمتلك سمات سلوكية أو عقلية محددة، لأنها لم تُصمم لتكون واعية. بالمقابل، يختلف الاتجاه المتزايد الذي نلاحظه في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث يُعبر عنه بشكل أفضل من خلال الروبوتات ووكلاء البرامج المدنية، الذين يمتلكون قدرات تفاعلية أكبر.
من الممارسات الشائعة في صناعة الروبوتات إعطاء أسماء لهذه الروبوتات، مما يسمح لأصحاب المصلحة المدنيين بإضفاء إحساس بالشخصية عليها. على سبيل المثال، في ميلتون كينز، يُعامل روبوتات التوصيل كما لو كانت كلابًا أليفة. كذلك، تتمتع وكلاء البرامج الشائعة في منازلنا، مثل “Alexa”، ليس بأسماء فقط، بل أيضًا بأسلوب حديث ونبرة صوت تهدف إلى التعبير عن شخصية معينة.
من ناحية، يعكس هذا الاتجاه رغبة مطوري الذكاء الاصطناعي في خلق تقنيات تحمل طابعًا مميزًا. على سبيل المثال، استلهم مهندس الروبوتات بوريس سوفمان من شخصيات “Pixar” عند تصميم “Cosmo”، وهو روبوت منزلي صغير، بهدف تعزيز الشعور بالتعاطف في العلاقات بين الإنسان والآلة. لكن من جهة أخرى، يجب أن نتذكر أن هذه التقنيات لا تمتلك شخصية تتجاوز ما يُسقط عليها من قبل المستخدمين. كما يشير مارينكو وفان ألين، يميل الأفراد غالبًا إلى إسناد صفات شخصية إلى الأجهزة المعقدة ذات التقنية العالية “لأنها أسهل طريقة لشرح سلوكها”. بوجه عام، رغم أننا لا زلنا بعيدين عن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التعاطف والتصرف مثل البشر، فقد تجاوزنا بالفعل عصر الآلات الباردة وغير الشخصية التي كانت سائدة في المدينة الذكية.
سابعًا، يمتد الانتشار الثقافي للذكاء الاصطناعي إلى المجال السياسي. ويُعتبر كل من الذكاء والذكاء الاصطناعي جزءًا من إدارة المدن، لكن بطرق مختلفة. في مبادرات المدن الذكية التقليدية، تُعد التكنولوجيا أداة في يد صانعي السياسات والمخططين. على سبيل المثال، تُستخدم أجهزة الاستشعار لجمع بيانات حول استهلاك الطاقة في المدينة، بينما يتولى صانعو القرار البشر إدارة إنتاج الطاقة استنادًا إلى الأفكار التي تولدها التكنولوجيا الذكية. بالمثل، تجمع لوحة المعلومات المدنية، التي تُعد عنصرًا محوريًا في المدينة الذكية، معلومات متنوعة حول مدينة معينة لتوجيه مديري المدن وصانعي السياسات. وتأثير لوحة المعلومات يكون غير مباشر، حيث تُساعد في اتخاذ القرارات البشرية لكنها لا تتخذ القرارات بنفسها. في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، نرى وضعًا مختلفًا تمامًا. تؤثر أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية، مثل أنظمة إدارة المدن الذكية، بشكل مباشر على إدارة المدن عبر اتخاذ القرارات. على سبيل المثال، تدير أنظمة إدارة المدن الذكية حركة المرور وتحدد استراتيجيات التنقل بشكل مستقل عن البشر، بينما تُحدد البرامج التنبئية للشرطة الأفراد والمجرمين المحتملين الذين تُصنفهم على أنهم مشبوهون.
بهذا المعنى، لا يُعد الذكاء الاصطناعي المدني مجرد أداة سلبية لإبلاغ صانعي القرار، بل هو طرف فاعل يتخذ القرارات ويشكل الإدارة المدنية. وهذا الوضع ليس عشوائيًا، حيث إن القرارات السياسية التي يتخذها البشر تضع أنظمة الذكاء الاصطناعي في موضع اتخاذ القرار بشأن إدارة المدن. ويتضح ذلك بشكل خاص في السياقات السياسية التي تتبنى التكنولوجيا، حيث تسعى الحكومات إلى تعزيز الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي وتكامله في مستويات متعددة من الإدارة.
يقودنا الجانب السابق من المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي إلى الفئة قبل الأخيرة من مقارنتنا: الوقت. في المدينة الذكية، تم تصوّر البُعد الزمني للمدن بشكل واضح من قبل “كيتشن” عبر مفهوم “المدينة في الوقت الفعلي”. تشير هذه الفكرة إلى مدينة تعتمد على أجهزة الاستشعار التي تنتج كميات ضخمة من البيانات في الوقت الفعلي، مما يعني اللحظة التي تحدث فيها الأنشطة التي يتم استشعارها بواسطة التكنولوجيا الذكية. على سبيل المثال، يحسب المبنى الذكي مقدار الطاقة المستهلكة، بينما يستخدم شاغلوه أجهزة مختلفة. وتركّز التقنيات الذكية بشكل رئيسي على الحاضر، حيث تحدث أنشطة مدنية متنوعة. أما في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، فإن تركيز التكنولوجيا يميل غالبًا نحو المستقبل: الأنشطة والمواقف التي لم تحدث بعد، ولكن يُحتمل أن تحدث. مثلًا، السيارات ذاتية القيادة تتوقع وتتجنب التقاطعات المزدحمة، والروبوتات الخدمية تتنبأ بطلبات العملاء التالية، وأنظمة إدارة المدن الذكية تتوقع كمية الطاقة التي ستستهلكها المدينة في السنوات القادمة وكمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة. كذلك، تُستخدم الخوارزميات لتوقع القيمة المستقبلية للعقارات أو لتحديد الأفراد الذين قد يرتكبون جرائم. هذه الأمثلة توضح كيف يُمدّد الذكاء الاصطناعي المدني الإطار الزمني للمدينة نحو المستقبل. إلى حد ما، كانت الرغبة في توقع المستقبل جزءًا مهمًا من الإدارة المدنية منذ القرن السابع عشر، مع ظهور الإحصاء ونظرية الاحتمالات لتحديد السيناريوهات غير المؤكدة. وما يميز اليوم هو أن الذكاء الذي يقف وراء التنبؤ بالمستقبل المدني المحتمل ليس بشريًا.
أخيرًا، نؤكد على مادية المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتأثير المادي الذي تُحدثه جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية على المساحات المدنية. لفهم الفئة الأخيرة من مقارنتنا، نستند إلى نظرية “بومان” عن الحداثة الخفيفة. بالنسبة لبومان، تُميز الحداثة الخفيفة المدن والمجتمعات بعد عصر الثورة الصناعية التي شهدت ظهور التقنيات الثقيلة ومواد البناء مثل السيارات والخرسانة المسلحة. وتمثل الحداثة الخفيفة عصر التقنيات الناعمة خفيفة الوزن والصغيرة، وهذه هي أجهزة الاستشعار والرقائق الدقيقة وأجهزة إنترنت الأشياء التي جعلت المدينة الذكية شائعة في التنمية المدنية. تُترجم ماديتها الصغيرة والخفيفة إلى تأثير مادي ناعم وغير مرئي بالكاد على البيئة المبنية. ونظرًا لماديتها الأكثر جوهرية في كثير من الأحيان، تختلف أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية عن التقنيات الذكية التقليدية. وتُعد السيارات والشاحنات ذاتية القيادة تقنيات ثقيلة يتطلب عبورها كميات هائلة من المساحة المدنية. وتتمتع روبوتات التوصيل بحضور مادي واضح لا يمكن تجاهله في الأماكن العامة مما يتطلب من صانعي السياسات المدنيين إعادة تعريف حقوق المرور على الأرصفة. لا تمتلك أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية الأثيرية ظاهريًا مثل أنظمة إدارة المدن الذكية جسمًا، لكن لديها مشغلات وملاحق مادية متعددة “كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، على سبيل المثال”، ويكون تأثيرها المادي كبيرًا عندما تؤثر قراراتها في التخطيط المدني، مما يؤدي إلى بناء مبانٍ وأحياء جديدة. وتتجاوز المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي الحداثة الخفيفة، وبالتالي تفتح حداثة جديدة لا يزال تأثيرها المدني غير معروف إلى حد كبير وغير مفهوم بشكل جيد. وبهدف مزدوج يتمثل في تحديد ومناقشة القضايا الأكثر أهمية في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ننتقل إلى القسم التالي.
أسئلة مهمة حول المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي
نرى المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي على أنها ظاهرة تتجاوز المفاهيم المجردة. إنها مدنية ناشئة تتخطى المدينة الذكية، مما يطرح تحديات جديدة تتطلب طرح أسئلة ونقاشات جديدة في مجال الدراسات المدنية. في الفقرات التالية، سنستخدم الفئات التسع التي تم فحصها في القسم السابق كنقاط انطلاق لمناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بالمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل نقدي. سنربط كل قضية بسؤال نقدي، في محاولة لإثارة النقاش وتحفيز البحث المستقبلي.
القضية رقم 1: إلى أي مدى تُعد المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مستدامة؟
مثل المدينة الذكية، تُعد المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مدينة مدفوعة بالتطور التكنولوجي والابتكار. على هذا النحو، فهي مدينة باهظة الثمن يصعب الحفاظ عليها بتكلفة عالية، ماليًا وبيئيًا. وتُعد تقنية الذكاء الاصطناعي باهظة الثمن وتستهلك الكثير من الطاقة، وكميات هائلة من المواد الخام المهمة. وتُعزز المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أيضًا الاعتماد المُضر على شركات التكنولوجيا التي تدخل حيز التنفيذ من خلال إنتاج وتثبيت وصيانة وتحديث تقنية الذكاء الاصطناعي. في الدول الغربية، تترك هذه الحالة المدن والدول عرضة لنفس النتائج النيوليبرالية والظالمة اجتماعيًا المرتبطة غالبًا بالمدينة الذكية. في بلد مثل الصين، بدلًا من ذلك نتوقع تدخلات حكومية قاسية وغير ديمقراطية من شأنها أن تزيد من توسيع سلطة الدولة ونفوذها.
ومع ذلك، كما يُذكرنا الفلاسفة على وجه الخصوص، فإن المسارات الجديدة لاستهلاك الموارد والحفاظ على البيئة والتنظيم الاجتماعي ممكنة في عصر الذكاء الاصطناعي. بصفتنا متخصصين في المدنية، نهتم بملاحظة أن كل فرصة تقدمها المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي من حيث الاستدامة، سيتعين عليها مواجهة إرث عدم المساواة الاجتماعية والبيئية والمكانية التي أوجدتها عقود من المدينة الذكية.
القضية رقم 2: ما هي رؤى المدينة التي ستنشرها أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية؟
لقد كانت رواية القصص مهارة بشرية أساسية منذ أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي. إنها قدرة كان لها أيضًا تأثير كبير على التنمية المدنية، حيث طور أصحاب المصلحة المدنيون المختلفون، عبر الزمان والمكان، ونشروا رؤى مختلفة للمدينة الجيدة، مما أدى إلى نشأة مستوطنات جديدة مع التأثير على إدارة المدن القائمة. الآن بعد أن أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية قادرة على إنتاج روايات تُعرّف ما هو جيد أو سيئ في المدينة ولأجلها، هناك خطر ألا تتوافق المُثُل العليا للمدينة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي مع المُثُل البشرية المهمة مثل العدالة والمساواة. في الواقع، هناك بالفعل أدلة على الروايات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجالات الإسكان والعقارات، والتي تُعاقب الأقليات العرقية. علاوة على ذلك، سيكون من الخطير افتراض أن الذكاء الاصطناعي والبشري يفكران بنفس الطريقة. لا سيما فيما يتعلق بالمسائل المدنية الأخلاقية الشائكة، مثل مشاكل العربات في النقل المدني والتخطيط والشرطة التنبئية، يجب فحص جانب الذكاء الاصطناعي من القصة بعناية ومناقشته بشكل جماعي.
القضية رقم 3: ما هي علاقات الإنسان والآلة الجديدة التي تظهر في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي؟
يدخل الذكاء الاصطناعي المدني المساحات المدنية اليومية للحياة والعمل. لن يقتصر على المختبرات أو البنى التحتية البعيدة، وسوف يتقاطع مسار الحياة المدنية قريبًا مع حياة الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة وأنظمة إدارة المدن الذكية. وتتصادم النظم البيئية المادية والرقمية، مما ينتج عنه جغرافيات جديدة معقدة تتميز بالتوترات والاشتباكات المباشرة، ولكن أيضًا حالات التعاون. من غير المحتمل أن يتم توزيع المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بالتساوي. نتوقع توزيعًا مكانيًا مشابهًا لتوزيع المدينة الذكية، يتميز بمساحات مجزأة وتقنيات قابلة للاختراق ومعطلة غير متوافقة بعضها مع بعض وتفتح المدينة أمام نقاط الضعف الأمنية والتدخلات التي تُجزئ المجتمعات المدنية. في بعض الحالات، ستتنافس أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية ضد البشر، ولكن أيضًا ضد بعضها البعض، للسيطرة على المساحات والخدمات المدنية. في حالات أخرى، كما يوحي أدب علوم الكمبيوتر، سيتعلم البشر التعاون مع الذكاء الاصطناعي “والعكس صحيح”، وبالتالي إقامة علاقات جديدة بين الإنسان والآلة.
القضية رقم 4: ما هي مستويات الاستقلالية التي سيحصل عليها أصحاب المصلحة المدنيون من البشر والذكاء الاصطناعي؟
تعني استقلالية أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية أنه في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، سنتنازل عن جزء من سلطة صنع القرار لدينا للآلات. وأهم من ذلك، من منظور مدني، تعني الاستقلالية أنه سيتم استبدال تكرار ورتابة التقنيات الذكية التقليدية بأضدادها: الارتجال والإجراءات المتفرقة التي قد تختلف اختلافًا جوهريًا عن الأنماط والمعايير والعلاقات الحالية. المشكلة هي أن الاستقلالية هي لعبة محصلتها صفر: تنمو استقلالية شخص ما “أو شيء ما” على حساب استقلالية شخص آخر. من الأهمية بمكان أن يحتفظ أصحاب المصلحة من البشر بمستويات عالية من الاستقلالية للتصرف واتخاذ القرارات، في المواقف والسياقات التي تميل فيها تصرفات الذكاء الاصطناعي المدني إلى الانحراف عن القاعدة. بالإضافة إلى ذلك، يبدو من الأهمية بمكان الحفاظ على الاستقلالية البشرية خاصةً حيث يمكن لمنطق الذكاء الاصطناعي أن يُولد نتائج غير متكافئة تؤثر سلبًا في فئات اجتماعية أو أماكن معينة.
القضية رقم 5: ما هي الشخصيات التي سيطورها الذكاء الاصطناعي المدني؟ وكيف يمكننا تجنب توصيفات عنصرية وجنسية في المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي؟
إن امتلاك شخصية هو سمة مهمة للذكاء الاصطناعي المدني: سمة يمكن أن تُسهل تفاعلات الإنسان والآلة وتعزز التعاون بدلًا من العداء. ومع ذلك، غالبًا ما يكون توصيف الذكاء الاصطناعي المدني “مثل الروبوتات ووكلاء برامج المدنية، على وجه الخصوص” نمطيًا وعنصريًا وجنسيًا. في جوهره، تحتاج شخصية الذكاء الاصطناعي المدني بشكل عاجل إلى إعادة تشغيل نسوية لتجنب إعادة إنتاج الصور النمطية الجنسانية الحالية. علاوة على ذلك، نرى في النظرية ما بعد الاستعمارية منظورًا أساسيًا لتعزيز تكوين شخصيات الذكاء الاصطناعي التي تتجاوز الصور الغربية، لالتقاط التنوع العرقي والثقافي والسياسي والأيديولوجي للمدن المعاصرة في جميع أنحاء العالم بشكل كامل. يتعلق الأمر بإلغاء مركزية توصيف الذكاء الاصطناعي المدني و “رفض تقليد الغرب” عندما يصوغ مصممو الروبوتات ووكلاء برامج المدنية جماليات ونبرة هذه التقنيات لاستحضار إحساس بالشخصية.
القضية رقم 6: كيف يمكن جعل الذكاء الاصطناعي المدني قابلًا للتفسير؟
يوجد توتر أساسي في القبول المجتمعي للذكاء الاصطناعي المدني. من جهة، كما ذُكر في القسم السابق، يُعتبر الذكاء الاصطناعي جزءًا من الثقافة الشعبية. ومن جهة أخرى، يشير الأدب في مجال الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير (XAI) إلى أن تقنية الذكاء الاصطناعي وآلياتها، وخاصة تأثيراتها، تظل غامضة حتى بالنسبة للعلماء الذين يطوّرون هذه التكنولوجيا. بدون نقاش عام موسع، وتعليم، وإفصاح، من المرجح أن ينتشر القبول الأعمى للمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يدفعنا نحو تبني تكنولوجيا نظن أننا نفهمها، بينما في الواقع، يظل معظمنا جاهلًا بتفاصيلها.
القضية رقم 7: كيف يمكن فهم أهداف الذكاء الاصطناعي المدني ومواءمتها؟
إن التعامل مع الذكاء الاصطناعي المدني كشريك فعال في إدارة المدن، بدلاً من كونه أداة جامدة تهدف فقط إلى تحسين الإدارة المدنية، يحمل آثارًا مزدوجة. أولًا، هناك سؤال تجريبي ونظري حول أي من أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية يمكن اعتبارها أصحاب مصلحة في الإدارة المدنية، وكيف يمكن تحديد حصصها ومنطقها وفهمها. ثانيًا، تبرز مشكلة محتملة تتعلق بالمواءمة، مما يستدعي منا التساؤل وفحص مدى توافق تصرفات وأهداف الذكاء الاصطناعي المدني مع المصالح والقيم الإنسانية. تشير مشكلة المواءمة إلى التحدي المتمثل في تحقيق توافق بين قيم وأهداف الذكاء الاصطناعي وتلك الخاصة بالبشر. على مدى قرون، كانت الإدارة المدنية هي الساحة التي نوقشت فيها القيم والأهداف الإنسانية، وقد حان الوقت الآن لإدماج قضية المواءمة في هذه المناقشات.
القضية رقم 8: ما هي المُستقبلات المدنية التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي المدني ويمنعها؟
ليس المستقبل مجرد بُعد زمني للمدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بل هو أيضًا هدفها. أي سياسة تعتمد على خوارزميات التنبؤ “تُغير حتمًا مستقبلًا لم يأتِ بعد”. يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية، مثل أنظمة إدارة المدن الذكية، أن تُنتج سيناريوهات معينة للمستقبل، بينما تمنع حدوث سيناريوهات أخرى. لا يوجد ضمان لدقة تنبؤات الذكاء الاصطناعي المدني، وهناك خطر أن تعتمد السياسات التنبئية على ما يُعرف بـ”البيانات القذرة”، التي قد تكون مشتقة من أو متأثرة بممارسات غير قانونية أو فاسدة، مما قد يؤدي إلى توليد حلقات تغذية مرتدة غير مرغوبة. ما هو على المحك هنا هو مستقبل المدينة، حيث قد لا تكون المدن التي يُشكلها الذكاء الاصطناعي المدني هي الأنواع التي يرغب البشر في العيش فيها.
القضية رقم 9: كيف يمكن للتخطيط المدني أن يستجيب للتغيرات المدنية السريعة التي يُسببها الذكاء الاصطناعي؟
تمتلك المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تأثيرًا عميقًا لا يمكن تجاهله. في أسوأ السيناريوهات، يمكن أن تكون هذا التأثير قاتلًا، كما حدث في حادثة إيلين هيرزبيرج التي صدمتها سيارة ذاتية القيادة في مدينة تيمبي بولاية أريزونا. تكمن المشكلة في أن إنتاج الذكاء الاصطناعي المدني وإطلاق تأثيره في المدن يحدث بوتيرة تفوق بكثير وتيرة التخطيط المدني.
على سبيل المثال، في عام 2020، زاد إجمالي الاستثمار العالمي في الذكاء الاصطناعي بنسبة 40%، مما يعكس دفعة كبيرة نحو تنفيذ جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية المختلفة التي تم تناولها في هذه المقالة. بينما يتم ضخ رأس المال بسرعة في صناعة الذكاء الاصطناعي، تظل عملية التخطيط بطيئة وغير فعالة في العديد من المدن.
تظهر مشكلة واضحة ومزمنة تتمثل في عدم قدرة التخطيط المدني على مواكبة التحولات التكنولوجية التي تتجاوز سرعة ونمو التغيير المدني، مما يزيد من المخاطر والتحديات المرتبطة بتطبيق هذه التقنيات في الحياة الحضرية.
الخاتمة: ما بعد المدن الذكية ونحو المدن المستقلة؟
السيارات ذاتية القيادة والروبوتات وأنظمة إدارة المدن الذكية هي تقنيات موجودة بالفعل وتملأ المساحات المدنية، وتأثيرها على التخطيط المدني والإدارة المدنية والحياة المدنية يتجاوز المدينة الذكية. هذا الانتقال إلى ما بعد المدن الذكية هو نظري وتجريبي في طبيعته. من الناحية النظرية، لقد أوضحنا في القسم الثاني أن المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ليست مرادفًا للمدينة الذكية. من الناحية التجريبية، أكدنا، في القسم الثالث، أن المدينة المدفوعة بأنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية تُنتج بالفعل وستستمر في إحداث تحديات عملية ونظرية جديدة.
من خلال تجاوز مفهوم المدينة الذكية، قد يؤدي صعود المدينة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في المستقبل إلى ظهور ما يُعرف بالمدينة المستقلة، التي يمكن تعريفها بأنها مساحة تُدير فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي المدنية المتنوعة وظائف اجتماعية وإدارية كانت تقليديًا من اختصاص البشر، وذلك بطريقة غير خاضعة للإشراف.
بينما يمكننا بالفعل رؤية بذور هذا النموذج المستقل في مشاريع مدنية تجريبية مثل “نيوم” في المملكة العربية السعودية ومدينة “Beiyang” للذكاء الاصطناعي في الصين، يبقى ظهور هذا النموذج في المستقبل قضية مفتوحة. إنها مسألة ملحة يجب على الباحثين المدنيين التفكير فيها؛ لأن “مدينة لا يديرها بشر، بل يديرها الذكاء الاصطناعي” ستتحدى استقلالية أصحاب المصلحة البشر، كما ستواجه تحديات في تحقيق الاستدامة البيئية نظرًا للاعتماد على سلاسل التوريد كثيفة الطاقة.
لقد بدأنا هذه الورقة بشرح سبب حاجة الذكاء الاصطناعي للمدينة، ونرغب في إنهائها بالتأمل في السؤال: هل تحتاج المدينة فعلاً إلى الذكاء الاصطناعي؟