“دور النشر” في مواجهة الذكاء الاصطناعي التوليدي
AI بالعربي – متابعات
الذريعة التي يستند إليها المعارضون لاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي مبنية على أن اطلاع الخوارزميات على البيانات واستخدامها لتشكيل منتج جديد، هي “عملية قرصنة واختلاس خفي لحقوق المبدعين”.
حتى قبل الحديث عن الذكاء الاصطناعي، وطرح روبوتات الدردشة وأولها تشات جي بي تي الذي أطلقته شركة أوبن إيه آي، كان استخدام البيانات وعرضها من قبل محركات البحث مثار جدل.
في أوائل التسعينات أقرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” أن حقوق المؤلفين والفنانين عرضة للخطر بسبب انتشار القرصنة. وبظهور الذكاء الاصطناعي تتخذ الحرب التي أصبحت معلنة بين الشركات التي تطور أنظمة ذكية، وبين الأفراد المبدعين وشركات الإنتاج الفني ودور النشر بعدا آخر يشار إليها بـ”حرب حقوق الملكية”. لقد دخلنا حقبة النماذج اللغوية التي تعطي مخرجات ضخمة، وغالبا من دون إشارة إلى الأصل. فهل نحن إذاً أمام عملية قرصنة واستلاب ذكي للحقوق الفكرية والإبداعية؟
سأبدأ من النهاية، وأقول رغم أن المخاوف مبررة، إلا أنها غير واقعية. الذكاء الاصطناعي بريء من تهمة الاختلاس وقرصنة جهود الآخرين. لتوضيح هذا الموقف الذي قد يبدو للوهلة الأولى متسرعا، تعالوا نتشارك في جولة ضمن أروقة مكتبة جامعية، قبل ظهور الكومبيوتر وقبل الثورة الرقمية، وبالطبع قبل الذكاء الاصطناعي الذي هو محور المشكلة المثارة اليوم.
هناك في المكتبة مئات الرفوف، تحتوي على الآلاف من الكتب بلغات مختلفة ومواضيع مختلفة، وهناك عشرات الطلاب والباحثين يتنقلون بين الأروقة ويختارون كتبا تتعلق بموضوع دراستهم وبحثهم، يقلبون بين صفحاتها ويسجلون ملاحظاتهم التي سيعتمدون عليها. بالطبع سيحرص الجميع على تسجيل إشارات للمصدر، ما عدا قلة إن وجدت لن تشير إلى المرجع، هذه القلة ستتهم بالقرصنة، وسرقة جهود الآخرين.
رغم ذلك، لم يدفع سطو قلة على الحقوق الفكرية للمؤلف وورثته إلى إغلاق المكتبات الجامعية.
المشهد نفسه تقريبا مع بعض التعديلات، كان يجري في السابق داخل دور النشر والصحافة.
المحررون والكتاب يتابعون نشرات الأخبار وبرامج تحليلية وصحفا منشورة أخرى ويستعينون بأرشيف ضخم بحثا عن معلومات يوثقون بها كتاباتهم.
في الحالتين، عملية تقصي الحقائق والبحث عن بيانات عملية مرهقة تحتاج إلى وقت طويل، وغالبا تتم الاستعانة بموظفين مختصين بالمكتبات والأرشفة.
بالنسبة إلى الكاتب والصحافي لا يختلف تشات جي بي تي عن أي موظف أرشيف مهمته جمع المعلومات والبيانات. الاختلاف الوحيد هو حجم البيانات المتاحة وسرعة الوصول إلى المعلومة.
في ضوء ذلك، هل يمثل الذكاء الاصطناعي تهديدا حقيقيا لحقوق الملكية الفكرية، وهل الاحتجاجات والقضايا التي تثيرها دور النشر ضد أوبن إيه آي، وآخرها قضية رفعتها نيويورك تايمز، لها ما يبررها؟
للمتشككين والذين ما زال في قلوبهم خوف من أن يقع المبدعون ضحية للقرصنة نطرح مثالا آخر؛ من الولادة وحتى سن التخرج، ومرورا بكل المراحل التعليمية، يمكن أن نختزل ونصف عملية النمو العقلي أنها تلقي بيانات واستيعاب هذه البيانات، ومن ثم استخدامها في الحياة العملية.
رغم ذلك لم توصف عملية نقل المدرس للمعلومات إلى تلاميذه يوما بأنها عملية سطو على هذه المعلومات. يمكن القول إن الكتب الدراسية التي تلقينا العلم والمعرفة من خلالها أعمال إبداعية محمية بقوانين حقوق الملكية، إلّا أنّ البيانات “المعلومات” نفسها ليست ملكا لأحد، ونستطيع استخدامها للتوصل إلى نتائج جديدة.
الرئيس التنفيذي لشركة أبل تيم كوك كشف منذ يومين أن الشركة ستعلن عن خططها لاستخدام الذكاء الاصطناعي الإنتاجي في وقت لاحق هذا العام، وأن الشركة المصنعة لآيفون ترى “إمكانيات كبيرة للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي الإنتاجي”، مؤكدا “أن ذلك سيفتح فرصًا تحولية للمستخدمين فيما يتعلق بزيادة الإنتاجية وحل المشكلات وغيرها”.
الأمر إذا يتعلق بزيادة الإنتاجية، وهذا هو الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي تحديدا.
رغم ذلك هناك ما يبرر المخاوف، وكما سهل الذكاء الاصطناعي عملية البحث واسترجاع المعلومات، سهل أيضا عملية القرصنة وسرقة جهود الآخرين. ولكن هذا لا يكفي لاتهام الذكاء الاصطناعي بالسرقة والقرصنة.
هناك من يقول إن اطلاع الخوارزميات على البيانات المتاحة والاستفادة منها في تشكيل منتج جديد هي عملية قرصنة خفية. إذا كان هذا الادعاء صحيحا فهذا يعني أن نشاط البشرية منذ أن عرفت الكتابة والرسم والعمارة والموسيقى هو تاريخ سطو مستمر.