لماذا لا يبدع الذكاء الاصطناعي مثل البشر رغم تطوره؟

AI بالعربي – متابعات

وضع كلود شانون، مؤسس نظرية المعلومات، في عام 1948، حجر الأساس لفكرة مبتكرة تهدف إلى نمذجة اللغة البشرية باستخدام نماذج اللغة الاحتمالية، إذ اقترح شانون أن اللغة يمكن أن تولد بناءً على احتمالية ظهور الكلمة التالية في جملة ما، استنادًا إلى الكلمات التي سبقتها، ولكن هذه الفكرة لم تلقَ قبولًا واسعًا في ذلك الوقت، بل واجهت انتقادات لاذعة، أبرزها من اللغوي الشهير نعوم تشومسكي، الذي وصف مفهوم “احتمالية الجملة” probability of a sentence، بأنه عديم القيمة والجدوى.

ولكن بعد مرور 74 عامًا على اقتراح شانون، شهد العالم ظهور “ChatGPT” في عام 2022، وهو روبوت دردشة يستند في عمله إلى نموذج لغوي متطور أثار دهشة الجميع، بل دفع بعضهم إلى التكهن بأنه قد يكون بوابة نحو الذكاء الاصطناعي الفائق.

ويعود السبب في طول المدة الزمنية التي استغرقها الانتقال من فكرة شانون إلى ChatGPT إلى الحاجة إلى كميات ضخمة من البيانات وقدرات حاسوبية فائقة لم تكن متاحة إلا في السنوات القليلة الماضية. ولكن كيف تنتج النماذج اللغوية الكبيرة، التي تعتمد عليها روبوتات الدردشة مثل: ChatGPT، وGemini، وغيرها، نصوصًا تبدو ذكية ومتماسكة، وما مدى تأثيرها في مجال الكتابة الإبداعية؟

كيف تنتج النماذج اللغوية الكبيرة نصوصًا تبدو ذكية ومتماسكة؟

دُربت النماذج اللغوية الكبيرة على مجموعات ضخمة ومتنوعة من النصوص المتاحة عبر الإنترنت، بما يشمل: الكتب، والمقالات، ومواقع الويب، والمحادثات، والأكواد البرمجية، وقد مكّن هذا التعرض الواسع النماذج من تعلم الأنماط اللغوية، والقواعد النحوية، والمعاني الدلالية، والعلاقات بين الكلمات والأفكار.

وخلال التدريب، تقوم النماذج اللغوية الكبيرة ببناء نماذج احتمالية معقدة، وهي نماذج تتنبأ باحتمالية ظهور الكلمة التالية في سياق معين، بناءً على مطالبة المستخدم والكلمات التي أُنشئت سابقًا. بمعنى آخر، تتعلم النماذج الكلمات التي من المرجح أن تأتي معًا في جملة أو فقرة.

وتتبع روبوتات الدردشة مثل: ChatGPT وGemini، هذا النموذج الاحتمالي لتوليد اللغة، إذ تختار الكلمة التالية بناءً على التنبؤ الاحتمالي، تخيل الأمر وكأنك تسحب كلمات من قبعة، وتتمثل الكلمات ذات أعلى احتمالية بعدد أكبر من النسخ داخل القبعة، ونتيجة لذلك، تنتج هذه الروبوتات نصوصًا تبدو ذكية ومتماسكة. ومع ذلك، يثير هذا التطور تساؤلات حول طبيعة الإبداع البشري ودور هذه النماذج في الكتابة الإبداعية.

النماذج اللغوية الكبيرة.. ببغاوات عشوائية أم أدوات إبداعية؟

من الضروري التمييز بين مفهوم الإبداع الذي تُظهره النماذج اللغوية الكبيرة والإبداع البشري الحقيقي، ففي المراحل الأولى لظهور هذه النماذج، كان من السهل على الأشخاص الذين كانت لديهم تصورات محدودة لقدرات الحاسوب، إسناد صفة الإبداع إلى نتائج هذه النماذج. في حين أبدى آخرون موقفًا أكثر تحفظًا ونقدًا، فقد وصف دوجلاس هوفستاتر، عالم الإدراك الأميركي، ما تقدمه هذه النماذج بأنه “فراغ مذهل مخفي تحت مظهره البراق والسطحي”.

كما قدمت عالمة اللغويات “إميلي بندر” وزملاؤها، وصفًا دقيقًا لطريقة عمل النماذج اللغوية الكبيرة واصفين إياها بأنها “ببغاوات عشوائية”، ويعني ذلك أن هذه النماذج تعيد إنتاج ما تحتويه البيانات الضخمة التي تدربت عليها بطريقة عشوائية، ولفهم هذه الآلية، يجب النظر في سبب توليد نموذج لغوي لكلمة معينة، يكمن السبب في أن هذه الكلمة لديها احتمالية ظهور عالية نسبيًا، وهذه الاحتمالية العالية ناتجة عن استخدامها بنحو متكرر في سياقات مشابهة ضمن مجموعة بيانات التدريب.

ومن ثم؛ فإن عملية اختيار كلمة بناءً على توزيع الاحتمالات تشبه إلى حد كبير اختيار نص موجود بالفعل يحتوي على سياق مماثل، ثم استخدام الكلمة التالية التي وردت في ذلك النص، وبناءً على هذا المنطق، يمكن النظر إلى عملية توليد النماذج اللغوية الكبيرة للنصوص على أنها نوع من السرقة الأدبية، ولكنه يُنفذ على مستوى الكلمة الواحدة في كل مرة.

وعلى النقيض من ذلك، يكمن جوهر الإبداع البشري في وجود أفكار ورؤى فريدة يسعى الفرد إلى نقلها والتعبير عنها. لذلك دعونا نحلل عملية الإبداع لدى شخص يختمر في ذهنه مجموعة من الأفكار الفريدة التي يسعى جاهدًا إلى تجسيدها ونقلها إلى الآخرين، مستعينًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي.

وفي هذا السياق، سيبدأ هذا الشخص رحلة تفاعلية مع الآلة عبر صياغة أفكاره الدقيقة وتحويلها إلى مطالبة نصية مفصّلة “prompt”، وتُعدّ هذه المطالبة بمنزلة بذرة أولية، ينطلق منها الذكاء الاصطناعي ليقوم بمهمة الإنتاج، التي قد تتجلى في شكل نص لغوي متماسك يحمل في طياته معاني محددة، أو في شكل صور بصرية دقيقة تعكس تصورات المستخدم، أو مقاطع صوتية ذات خصائص مميزة تحمل بصمته الفنية.

وفي السيناريو الذي يتسم فيه المستخدم باللامبالاة تجاه جودة المخرجات النهائية أو طبيعتها الجوهرية، يصبح اختيار المطالبة النصية أمرًا ثانويًا وغير ذي أهمية، ففي هذه الحالة، لا يولي المستخدم الخصائص الدقيقة للمدخلات اهتمامًا كبيرًا، ما دامت الآلة تنتج شيئًا ما.

ولكن الوضع يختلف جذريًا عندما يكون المستخدم شديد الاهتمام بالنتائج النهائية، إذ يتطلع إلى مخرَجات تتوافق مع رؤيته وتطلعاته الإبداعية. وهنا، يصبح دور النموذج اللغوي الكبير محوريًا.

قيود النماذج في محاكاة الإبداع الأصيل

تسعى النماذج اللغوية الكبيرة في عملها إلى محاكاة نمط الكتابة الذي قد يتبعه شخص عشوائي قام بكتابة النصوص التي تدرب عليها النموذج، ولكن معظم الكُتّاب المبدعين، الذين يتميزون بأسلوبهم الفريد ورؤيتهم المتميزة، لا يرضون بنصوص تحمل بصمات شخص عشوائي، إنهم يتوقون إلى تجسيد إبداعهم الأصيل في كل كلمة وجملة، وقد يتطلعون إلى استخدام أدوات تساعدهم في إنتاج النصوص التي قد يكتبونها بأنفسهم لو كان لديهم الوقت الكافي لذلك.

ولكن لا تمتلك النماذج اللغوية الكبيرة عادةً مجموعة واسعة وكافية من أعمال مؤلف معين للتعلم منها بنحو عميق، ويجعل هذا النقص في البيانات الخاصة من الصعب على النموذج استيعاب الأسلوب الفريد والتفضيلات الدقيقة لهذا المؤلف، ونتيجة لذلك، فإن المؤلف يطمح بلا شك إلى إنتاج عمل يحمل بصمته الخاصة ويتميز عن أي شيء آخر.

وإذا كان الناتج المتوقع يتطلب مستوى من التفصيل يتجاوز بكثير ما تضمنته المدخَلات الأولية، يصبح لزامًا على النموذج أن يقوم بعملية إضافة تفاصيل من تلقاء نفسه، وقد تنسجم هذه التفاصيل المولدة وتتوافق مع النوايا والتصورات السابقة للكاتب، مما يثري النص ويجعله أكثر دقة وعمقًا، أو قد تكون بعيدة تمامًا عن رؤيته الأصلية مما يستلزم تدخلًا بشريًا لتصحيحها وتوجيهها نحو الهدف المنشود.

ويسلط ذلك الضوء على التحدي الأساسي الذي تواجهه النماذج اللغوية الكبيرة في محاكاة الإبداع البشري الأصيل الذي ينبع من رؤية شخصية وهدف محدد.

إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الكتابة الإبداعية

تتشارك عمليتا الكتابة الإبداعية وتطوير البرمجيات المعقدة في أوجه تشابه جوهرية، فبينما ينكب مطور البرمجيات المتخصص على تحويل فكرة مجردة أو متطلبات وظيفية دقيقة إلى سلسلة من التعليمات البرمجية المنظمة – التي تمثل في جوهرها نصوصًا مكتوبة بلغة حاسوبية محددة – يمارس الكاتب المبدع مهمة مماثلة، إذ يحوِّل تصوراته وأفكاره ورؤاه الداخلية إلى نصوص مكتوبة بلغة طبيعية غنية بالدلالات والتعبيرات.

ومن اللافت للنظر أن النماذج اللغوية الكبيرة تتعامل مع كتابة التعليمات البرمجية، بما تتضمنه من هياكل منطقية وأوامر تنفيذية، وكتابة النصوص باللغة الطبيعية، بما تحمله من معانٍ وسياقات لغوية متنوعة، بطريقة مماثلة، وتعود هذه المعاملة الموحدة إلى أن المجموعة النصية الضخمة التي دُربت عليها هذه النماذج تحتوي على كميات ضخمة من النصوص اللغوية الطبيعية، التي تغطي مختلف جوانب المعرفة البشرية، وكميات ضخمة من التعليمات البرمجية المكتوبة بمختلف لغات البرمجة، التي تمثل حلولًا لمشكلات حاسوبية متنوعة، لذلك تعتمد طبيعة الناتج النهائي، الذي تولده هذه النماذج بنحو كبير، على السياق المحدد للمدخلات الأولية “المطالبات النصية” التي تتلقاها.

وفي هذا السياق، يمكن للكُتّاب المبدعين استخلاص بعض الدروس القيمة من تجربة مطوري البرمجيات في استخدام النماذج اللغوية الكبيرة، إذ تتفوق هذه النماذج في التعامل مع المشاريع الصغيرة والمحددة، التي سبق أن أنجزها عدد كبير من المطورين بنحو متكرر، مثل: إنشاء استعلامات محددة لقواعد البيانات لاستخلاص معلومات معينة، أو توليد نصوص لرسائل البريد الإلكتروني النمطية أو وثائق روتينية.

كما تقدم هذه النماذج مساعدة قيمة في أجزاء محددة من المشاريع البرمجية الكبيرة والمعقدة مثل: إنشاء نص لمربع حوار منبثق ضمن واجهة مستخدم رسومية لتطبيق ما.

ومع ذلك؛ إذا أراد المبرمجون أو الكُتّاب الاستفادة من هذه النماذج في مشاريع أكثر تعقيدًا وتفصيلًا، فيجب أن يكونوا على استعداد لإنتاج عدة مخرجات محتملة من النموذج، ثم القيام بعملية انتقاء وتعديل دقيقة للمخرَج الذي يُعدّ الأقرب إلى الهدف المنشود والرؤية الإبداعية المحددة. فالتحدي الأساسي في تطوير البرمجيات لم يكن يومًا ما عملية كتابة التعليمات البرمجية نفسها، بل يتمثل دائمًا في عملية تحديد المتطلبات الدقيقة والكاملة للمشروع بدقة ووضوح لا لبس فيهما.

هندسة المطالبات.. فن توجيه الذكاء الاصطناعي

مع التطور السريع للنماذج اللغوية الكبيرة، برزت الحاجة إلى صياغة مدخلات فعالة للحصول على أفضل النتائج الممكنة، وقد أدى ذلك إلى ظهور ما يُعرف باسم “هندسة المطالبات” prompt engineering، ويهدف هذا المجال الناشئ إلى استكشاف تقنيات محددة وتطويرها لتحسين جودة وملاءمة المخرجات التي تولدها النماذج الحالية.

وقد اقترح الخبراء في هذا المجال مجموعة متنوعة من التقنيات العملية لتحسين مخرجات النماذج، ومنها:

المطالبات المتعددة الخطوات: تتضمن هذه التقنية تقسيم المهمة المعقدة إلى عدة خطوات متسلسلة، فعلى سبيل المثال، يمكن للمستخدم أن يطلب أولًا من النموذج إنشاء مخطط تفصيلي أو هيكل للمحتوى المطلوب، ثم يقدم مطالبة ثانية تطلب من النموذج إنشاء النص الفعلي بناءً على هذا المخطط المُعد سابقًا، ويُعتقد أن هذه الطريقة تساعد النموذج على فهم المهمة بنحو أفضل وتوليد مخرجات أكثر تنظيمًا وتماسكًا.

سلسلة التفكير “Chain of Thought”: تعتمد هذه التقنية على مطالبة النموذج بالكشف عن عملية تفكيره بنحو صريح، فبدلًا من مجرد تقديم الإجابة النهائية عن سؤال ما، يُطلب من النموذج شرح الخطوات المنطقية أو خطوات التفكير التي اتخذها للوصول إلى تلك الإجابة. ويستخدم النموذج هذه الخطوات الوسيطة كجزء من المطالبة نفسها، مما يساعده في تحسين دقة وموثوقية إجابته النهائية. ويُعتقد أن هذه التقنية تشجع النموذج على إجراء تحليل أعمق للمشكلة وتقديم حلول أكثر تفصيلًا ومنطقية.

ومع ذلك، من الضروري إدراك أن طبيعة هذه النصائح والتقنيات المستخدمة في هندسة المطالبات من المرجح أن تكون ذات عمر افتراضي محدود، فإذا أثبتت تقنية معينة في صياغة المطالبات فعاليتها وقدرتها على تحقيق نتائج ملحوظة، فمن المتوقع أن تُدمج هذه التقنية بنحو مباشر في البنية الداخلية للإصدارات المستقبلية من النموذج، ويعني ذلك أن التأثير الإيجابي لهذه التقنيات سيصبح جزءًا أصيلًا من سلوك النموذج، دون الحاجة إلى أن يقوم المستخدم بتطبيق هذه التقنيات يدويًا في كل مرة.

وقد بدأت بالفعل النماذج الحديثة التي تدعي امتلاك قدرات تفكير منطقي بإدماج آليات مشابهة لتلك المستخدمة في تقنية “سلسلة التفكير” ضمن بنيتها الداخلية، مما عزز قدرتها على تقديم إجابات أكثر منطقية وتفسيرًا.

الحاجة إلى التفكير النقدي في عصر الذكاء الاصطناعي

لقد طور عالم الحاسوب البارز “جوزيف وايزنباوم”، أول روبوت محادثة تفاعلية يُعرف باسم “ELIZA”، خلال المدة الممتدة بين عامي 1964 و 1966، وهو برنامج حاسوبي مصمم لمحاكاة محادثة مع معالج نفسي. وقد عبر وايزنباوم عن دهشته العميقة إزاء ردود فعل المستخدمين تجاه هذا البرنامج البدائي، قائلًا: “لقد فوجئت عندما شاهدت السرعة الفائقة والعمق الكبير للانخراط العاطفي الذي أبداه الأشخاص الذين تفاعلوا وتحدثوا مع البرنامج كما لو كانوا يتحدثون مع كائن حي، لقد وصل بهم الأمر إلى إضفاء صفات وخصائص بشرية على هذا البرنامج الحاسوبي البسيط”. وتسلط هذه الملاحظة المبكرة الضوء على ميل الإنسان الفطري لإضفاء صفات شبيهة بالبشر على الآلات، حتى عندما تكون هذه الآلات بسيطة نسبيًا.

فمع التطور الكبير الذي الذي شهدته تكنولوجيا الحاسوب والذكاء الاصطناعي منذ ذلك الحين، فإن رغبة الناس في التصديق بقدرات الآلات، بل والانخراط معها عاطفيًا، لا تزال قائمة. لقد تغيرت الأدوات والتقنيات بنحو جذري، ولكن يبدو أن الحاجة الإنسانية لإيجاد معنى والتواصل، حتى مع الكيانات غير الحية، لا تزال قوة دافعة قوية.

وفي هذا العصر الراهن الذي يتميز بانتشار واسع النطاق للمعلومات المضللة والأخبار الكاذبة عبر مختلف الوسائل الإعلامية والمنصات الرقمية، تزداد الأهمية القصوى لتمكين كل فرد في المجتمع من امتلاك القدرة الذاتية والأدوات المعرفية اللازمة لتقييم وتمحيص ما يتداوله الإعلام، الذي غالبًا ما يكون مدفوعًا بمصالح ذاتية خفية أو معلنة ويهدف إلى التأثير في الرأي العام لتحقيق أهداف محددة.

ومن الضروري تأكيد أنه لا يوجد عنصر سحري أو قوة خارقة حقيقية تكمن وراء قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بل تكمن قوتها في تحليل كميات ضخمة من البيانات، مما يمكّنها من التنبؤ بما قد يكتبه شخص ما بناءً على الأنماط الموجودة في تلك البيانات، كما يجب أن نستخدم هذه الأدوات بحكمة، مع الحفاظ على تقديرنا للإبداع البشري الأصيل.

الخلاصة

يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يكون أداة قيمة للكُتّاب، ولكن يجب استخدامه بحذر وتفكير نقدي، ويجب أن نتذكر أن الإبداع الحقيقي ينبع من الإنسان، وأن هذه النماذج هي مجرد أدوات يمكن أن تساعدنا في عملنا.

اترك رد

Your email address will not be published.