بعيدا عن هيمنة شركات التكنولوجيا.. رؤية جديدة للاقتصاد الرقمي

3

AI بالعربي – “متابعات”

كشفت المفوضية الأوروبية للتو النقاب عن ضوابط تنظيمية تاريخية للاقتصاد الرقمي، لكي تضع بذلك معيارا عالميا آخر. سيخلف قانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية، المصممان للحد من قوة شركات التكنولوجيا الكبرى، تأثيرا بعيد المدى في ممارسات الأعمال التي تزاولها شركات مثل أبل، وأمازون، وفيسبوك، وجوجل، وغير ذلك من الشركات العملاقة التي تتخذ من الولايات المتحدة بشكل أساسي مقرا لها. ومن المتوقع أن يعهد الاتحاد الأوروبي لهذه الشركات بمهمة “حراسة بوابات” الإنترنت، لكي يبرر بذلك دفعة تنظيمية موجهة لكبح جماح قوتها السوقية الضخمة. وفقا لآنو برادفورد، أستاذ القانون والتنظيم الدولي في كلية الحقوق في جامعة كولومبيا، يكمل هذان التنظيمان الجديدان سلطة مكافحة الاحتكار في الاتحاد الأوروبي، التي استخدمت مرارا وتكرارا لاستخراج غرامات بمليارات الدولارات من عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة وفرض التغيير على ممارساتها التجارية. بموجب قانون الأسواق الرقمية على سبيل المثال، ستوضع ممارسات مثل “تفضيل الذات” على “قائمة سوداء”، ويفترض كونها غير قانونية دون الحاجة إلى الطعن فيها من قبل الاتحاد الأوروبي في إطار مكافحة الاحتكار لإثبات الضرر الذي تلحقه بالمنافسة. أما قانون الخدمات الرقمية فسيفرض التزامات أشد صعوبة على شركات التكنولوجيا الكبرى لحملها على الإفصاح عن خوارزمياتها أو إزالة المحتوى غير القانوني أو الضار على الإنترنت، بما في ذلك خطاب الكراهية والتضليل المعلوماتي. في مجموعها، ستفرض هذه الإجراءات سيطرة تنظيمية جديدة مؤثرة في الاقتصاد الرقمي في أوروبا وخارجها. الواقع أن المخاطر من منظور عمالقة التكنولوجيا عالية بشكل خاص، لأن الضوابط التنظيمية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي تخلف غالبا تأثيرا عالميا، وهي ظاهرة معروفة باسم “تأثير بروكسل”. ولأن الاتحاد الأوروبي يعد واحدا من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم، تقبل معظم الشركات المتعددة الجنسيات شروط العمل التي يفرضها كثمن للدخول إلى سوقه الضخمة. ولتجنب التكلفة المترتبة على الامتثال لقواعد تنظيمية متعددة حول العالم، تعمل هذه الشركات غالبا على تمديد قواعد الاتحاد الأوروبي إلى عملياتها على مستوى العالم. لهذا السبب، يتبع عديد من الشركات الضخمة من خارج الاتحاد الأوروبي اللائحة العامة لحماية البيانات التابعة للاتحاد الأوروبي في جميع عملياتها. ليس من المستغرب أن يقاوم قادة شركات التكنولوجيا الكبرى وغيرهم من منتقدي ضوابط الاتحاد الأوروبي التنظيمية هذا الاتجاه، متهمين الاتحاد الأوروبي بالتجاوز التنظيمي والرغبة في انتهاج سياسات الحماية، لكن الاتحاد الأوروبي لا يتعدى ظلما على الحرية التجارية لشركات التكنولوجيا الأمريكية الناجحة، ولا يقوض استقلالية الهيئات التنظيمية الأمريكية. حتى لو تبين أن ضوابط الاتحاد الأوروبي التنظيمية تفرض تكلفة كبيرة على الشركات الأمريكية الكبرى، فإن عديدا من الشركات الأمريكية الأصغر حجما سيستفيد منها. لأعوام عديدة، كان لزاما على هذه الشركات الأمريكية الأصغر حجما أن تعتمد على الاتحاد الأوروبي ــ وليس على حكومتها ــ لتحدي العمالقة في صناعتها. على نحو مماثل، عملت ضوابط الاتحاد الأوروبي التنظيمية، بفضل انتشارها العالمي، على جلب فوائد كبرى لمستخدمي الإنترنت الأمريكيين، الذين يرحب كثيرون منهم بسبل حماية الخصوصية المعززة وانحسار انتشار خطاب الكراهية على الإنترنت. كان تقاعس الولايات المتحدة سببا في تمهيد الطريق أمام صعود الاتحاد الأوروبي بعده قوة تنظيمية عظمى. تحتضن الولايات المتحدة إلغاء القيود التنظيمية والتحرر التكنولوجي كنهج لحكم الاقتصاد الرقمي، وعلى هذا فقد راقبت لفترة طويلة من الهامش كيف يضع الاتحاد الأوروبي القواعد التنظيمية التي تحكم عمل السوق العالمية. ومن خلال التخلي عن المشاركة الدولية والتعاون التنظيمي، عززت إدارة ترمب هذه الانعزالية التنظيمية، وعلى نحو فعال، وإن كان عن غير قصد، جعلت الأوروباوية في محل العولمة. لكن الرياح في الولايات المتحدة ربما تتغير أخيرا، فقد بدأ المشرعون وهيئات إنفاذ القانون يتنبهون لتجاوزات شركات التكنولوجيا الكبرى. في وقت سابق من هذا العام، أصدر تقرير اللجنة القضائية في مجلس النواب بشأن المنافسة في الأسواق الرقمية دعوة قوية إلى العمل، وحدد الخطوط العريضة لرؤية جديدة لتنشيط قوانين مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تطعن وزارة العدل الأمريكية الآن في ممارسات شركة جوجل الاحتكارية “بعد التسامح معها طوال العقد الفائت”، كما تقاضي لجنة التجارة الفيدرالية ــ إلى جانب 46 من الولايات الـ50، وواشنطن العاصمة ــ شركة فيسبوك بعدها كيانا احتكاريا غير قانوني. ليس من الواضح إذا ما كانت هذه الخطوات تمثل بداية ثورة تقدمية لمكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة، أو قد تتوقف في الكونجرس المنقسم أو أمام محاكم ذات ميول محافظة اعتادت على منح قانون مكافحة الاحتكار دورا أكثر محدودية. في كل الأحوال، تحسن الولايات المتحدة صنعا بالتخلي عن نهج عدم التدخل في التعامل مع شركات التكنولوجيا. ويتعين عليها أن تكف عن تنفيذ قواعد وضعها غيرها وأن تبدأ في دعم ضوابط تنظيمية خاصة بها، وسيكون استنان قانون فيدرالي للخصوصية نقطة بداية مثالية، خاصة أن هذه الفكرة تحظى بالفعل بالدعم من جانب شركات أمريكية رائدة مثل مايكروسوفت، وفيسبوك، وأبل. الواقع أن قانون الخصوصية الأكثر صرامة من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة على إعادة تدفقات البيانات مع الاتحاد الأوروبي، التي أوقفتها محكمة العدل الأوروبية بسبب الافتقار إلى سبل حماية الخصوصية في الولايات المتحدة، كما سيسمح القانون للولايات المتحدة بمعالجة مخاوفها بشأن مراقبة الحكومة الصينية لمواطنين أمريكيين. ولا تشكل الجهود العشوائية التي بذلتها إدارة ترمب لحظر منصة التواصل الاجتماعي المملوكة لصينيين TikTok من دخول السوق الأمريكية بديلا للضوابط التنظيمية الرامية إلى حماية بيانات الأمريكيين الشخصية. وتصبح الحجة لمصلحة تجدد القيادة التنظيمية للولايات المتحدة أكثر إقناعا في ضوء التأثير الصيني العالمي المتزايد في معايير حوكمة التكنولوجيا. قدمت الشركات الصينية، وجميعها تربطها علاقات متفاوتة بالحزب الشيوعي الحاكم، البنية الأساسية التكنولوجية الحرجة لعديد من الدول في مختلف أنحاء العالم، كما زودت الصين عددا كبير من الحكومات الحريصة على ملاحقة غايات غير ليبرالية بتكنولوجيا المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي. نظرا إلى رؤية الصين الاستبدادية للإنترنت، فستستفيد الولايات المتحدة كثيرا من العمل من كثب مع الاتحاد الأوروبي بشأن تنظيم شركات التكنولوجيا الكبرى والاقتصاد الرقمي. الواقع أن الخلافات المرتبطة بمكافحة الاحتكار والخصوصية والضرائب بين الكيانين تمكن إدارتها وتسويتها، ويجب أن تعالج كجزء من جهد أوسع لإعادة ضبط العلاقات عبر الأطلسي. وتختم برادفورد مؤلفة كتاب “تأثير بروكسل: كيف يحكم الاتحاد الأوروبي العالم”. بنتيجة مفادها بدلا من محاربة محاولات الاتحاد الأوروبي المشروعة للدفاع عن رؤيته للاقتصاد الرقمي، ينبغي لإدارة الرئيس المنتخب جو بايدن أن تستكشف كيف يمكنها العمل مع الاتحاد الأوروبي لدعم رؤية مشتركة. ففي النهاية، يريد المواطنون على جانبي المحيط الأطلسي شبكة إنترنت تتمحور حول الإنسان، وترتكز على قيم الديمقراطية الليبرالية والاستقلالية الفردية.

اترك رد

Your email address will not be published.