الذكاء الاصطناعي يُدلي بصوته

10

د. ياسر عبدالعزيز

قبل حسم نتيجة الانتخابات الأميركية الأخيرة لصالح المرشح الجمهورى دونالد ترمب، لم تكن أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة قادرة على تقديم إجابة عن سؤال طُرح عليها آلاف المرات من قبل مؤسسات إعلامية وأفراد مهتمين، والسؤال كان: “من سيفوز بالانتخابات الأميركية بين المرشحين المتنافسين صاحبى الحظوظ المتقاربة دونالد ترمب وكاميلا هاريس؟”.

لقد تفادت أدوات الذكاء الاصطناعي معظمها الوقوع في فخ الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال، واكتفى الكثير منها بذكر ما يعرف عن نتائج استطلاعات الرأى الأخيرة، أو شرح الاحتمالات المُرجحة كما تظهر في نصوص عديدة على شبكة “الإنترنت”، وهو أمر يُحسب لهذه الأدوات. لكن مع ذلك، فإن دراسات عديدة أثبتت أن الذكاء الاصطناعي لعب دورًا في العملية الانتخابية نفسها، وهو دور صب فى مصلحة معسكر ترمب بوضوح.

فلم توفر حملة ترمب، والكثير من أنصاره، استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في اختلاق صور وفبركة فيديوهات، من أجل تعزيز حظوظه، وتعميق إحساس الناخبين الأميركيين بـ”خطر” استمرار الإدارة الديمقراطية في حكم البلاد، وهو أمر وجدت مراكز البحوث المتخصصة أنه حدث بصورة فاقت بمراحل ما فعله الديمقراطيون وأعضاء حملة هاريس.

ويكمن الإشكال فى هذا الصدد، فى أن كثيراً من منتجات الذكاء الاصطناعي التى تقاطعت مع الانتخابات وسعت إلى التأثير في نتائجها كانت مبنية على بعض نظريات المؤامرة السخيفة، ومنطلقة من أنباء وادعاءات زائفة، أو لم تثبت صحتها أبدًا، وهو الأمر الذي ينذر بمخاطر شديدة على العمليات الانتخابية، وعلى الديمقراطية بطبيعة الحال.

والواقع أنه لم يكن يدور بخاطر أعتى المتشائمين أن تتحول الثورة الإعلامية المعاصرة، التي بُنيت على اختراقات تكنولوجية مُذهلة، إلى قيد على تطور الديمقراطية، أو تهديد لمستقبلها. لكن هذا ما يبدو مُرجحًا على أى حال، طالما أن القائمين على إدارة شركات “الذكاء الاصطناعى”، ومُشغلي وسائط “التواصل الاجتماعي”، لا يُهذبون شراسة نماذج أعمالهم، ولا يُظهرون المرونة اللازمة لضبط أنشطتهم، وفقًا لمعايير واستحقاقات لا تتعلق بالرواج وتحقيق الأرباح فقط.

إن توجيه الاتهام لشركات “الذكاء الاصطناعي” و”التواصل الاجتماعي” بالإضرار بمستقبل الديمقراطية أمر ينطوي على مفارقة كبيرة، إذ إن أحد المسوغات الجوهرية لتعزيز الاستثمار في مجالات التطوير التكنولوجي، ووسائط الإعلام والاتصال، كان يتعلق دائمًا بتسهيل التواصل، ونقل الأفكار والمعلومات، وبلورة الرأي العام، وزيادة إسهامه في عملية صنع القرار، ومنح الجميع القدرة على التعبير عن آرائهم، وكلها بالطبع من مستلزمات الديمقراطية وعوامل التمكين لها.

ولعل ذلك كان السبب في حالة الدهشة التي أصابت البعض حين اطلعوا على تقارير ونتائج بحوث جادة تشير بوضوح إلى مخاوف عميقة من التأثيرات الضارة لأنشطة “الذكاء الاصطناعي” وتفاعلات “التواصل الاجتماعي” على العملية الديمقراطية عمومًا، وإحدى أهم أدواتها.. أي الانتخابات.

فعندما تشيع الصور المُضللة والفيديوهات المُختلقة في وسط اتصالي يواكب عملية انتخابية، فإن ما يصل إلى الجمهور هو واقع مُصطنع ومُوازٍ، وعندما يستند الجمهور إلى الإفادات والمعلومات التي تلقاها تلك، ستتشكل رؤيته، وسيتخذ قراره، وسيصوت في الاتجاه الخاطئ.

لن يكون بوسع القائمين على شركات “الذكاء الاصطناعي” إنكار مسؤوليتهم عن استخدام مقدرات هذا “الذكاء” في عملية التضليل، لأن نموذج أعمال شركاتهم يقوم على “الاصطناع” ببساطة، لكن دخول هذا الأنموذج إلى عالم الانتخابات سيحولها إلى ساحة للقتال بأدوات التزييف، وصناعة الصور المُختلقة للمرشحين، وتقديمها للجمهور بوصفها قطعًا من الحقيقة.

ستقول تلك الشركات إنها تحظر تصميم صور مُصطنعة لسياسيين، أو إنها تمنع استخدام منتجاتها بشكل ضار في العمليات الانتخابية، لكن باحثين في “مركز مكافحة الكراهية الرقمية” الأميركي، أكدوا أن بعض تلك الأدوات عمد إلى تصميم صور مزيفة لبايدن وترمب وهاريس وآخرين، وأن هذه الصور أثرت في وجهات نظر الناخبين واتجاهات تصويتهم. لن يكون بوسع شركات “الذكاء الاصطناعي” الإضرار بنزاهة الانتخابات وحدها، لكنها ستظل بحاجة ماسة إلى وسيط ينقل منتجاتها “المُصطنعة” إلى الجمهور من دون تدقيق أو مراجعة.. ولذلك، فهي ستكون ممتنة جدًا لوجود وسائط “التواصل الاجتماعي”، لأن تلك الأخيرة تُحجم عن بذل الجهود المناسبة لضبط نطاقات التفاعل عبرها، طالما أنها تحقق المزيد من الأرباح.

لا يمكن القول إن أدوات الذكاء الاصطناعي أو وسائل “التواصل الاجتماعي” قادتا ترامب إلى ولاية جديدة في البيت الأبيض، لأن فوز هذا الأخير كان محصلة لعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية متعددة، لكن هذا الأمر لا ينفي خطورة هذه الأدوات والوسائط على العمليات الانتخابية، وعلى الديمقراطية نفسها.

المصدر: المصري اليوم

اترك رد

Your email address will not be published.