الجزائر والذكاء الاصطناعي!
تهتم البلدان المتقدمة أكثر فأكثر بتوظيف الذكاء الاصطناعي في شتى الميادين، منها الطبية والطاقوية والعسكرية والصناعية والبيئية والمالية والخدماتية والأمنية، وغيرها. وقد برزت عدة بلدان من القارات الثلاث: أمريكا وآسيا وأوروبا خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وبريطانيا. والكل يعلم أن الذكاء الاصطناعي يُحدث اليوم ثورةً في العالم، وأن من يمتلك ناصيته فاز فوزا عظيما في الرقيّ بالبلاد والعباد.
الوضع في الجزائر
والواقع أن هناك ذكاءات إصطناعية عديدة وليس ذكاءً واحدا، وكلٌّ منها يوجَّه لخدمة نشاط بعيْنه. ولذا يمكن أن تجد بلدا يطوّر هذا العلم في مجالات معينة أكثر مما يفعل في مجالات أخرى، فعلى سبيل المثال، ركّزت الصين على استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الطب أكثر من الدول الأخرى لحل مشكل نقص الأطباء في الأماكن النائية عن المدن الكبرى.
عندما نستمع إلى المعنيين بموضوع الذكاء الاصطناعي في الجزائر نستبشر خيرًا، بل نُبهَر بما يتم تقديمه من أرقام في هذا المجال، فهذا الباحث المتألّق أحمد قسوم، مدير مخبر الذكاء الاصطناعي في جامعة باب الزوار، يُلقي محاضرة في ديسمبر الماضي سلّط خلالها الضوء على مسيرة الذكاء الاصطناعي في الجزائر ومستقبله، مُجريًا عدة مقارنات مع بلدان أخرى. وفي هذا السياق، ذكر أنه يوجد في الجزائر 116 مخبر بحث مرتبطٌ بالذكاء الاصطناعي. وتضم هذه المخابر 568 فريق بحث ينتسب إليها 6169 باحثا. وهؤلاء الباحثون منتشرون في 40 جامعة عبر الوطن.
أما إنتاج هذه المخابر من الأبحاث فلا زال متواضعا مع أنه في تزايد مستمرّ. وما تحتاج إليه البلاد، بالدرجة الأولى، هو وضع إستراتيجية حكومية ترسم الأهداف الوطنية وخطط العمل، وتوفر التمويلات على مدى السنوات القادمة. وبدون هذه الإستراتيجية تظل الأبحاث التي تُجرى في تلك المخابر بدون فائدة كبيرة على البلاد، بل ستكون أقرب إلى الأعمال المتناثرة التي لا يمكنها إنجازُ مشاريع متكاملة.
ولذا يُعدّ رسم “الإستراتيجية الحكومية” أحد أبرز المقاييس العالمية التي تقيّم مدى تقدم الذكاء الاصطناعي في بلد من البلدان. بمعنى أن البلد الذي لم يرسم تلك الإستراتيجية في وقت معيّن سوف لن يتمكّن من مواكبة ركب التقدم في هذا القطاع. وذلك هو حال الجزائر الآن كما تُثبت المؤشرات العالمية رغم هذا العدد الهائل من المخابر في الذكاء الاصطناعي المنتشرة عبر المؤسسات الجامعية في الوطن.
مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي
مؤسسة “تورتويز ميديا” (Tortoise Media)، شركة إعلامية أطلقها قبل سنوات جيمس هاردينغ (James Harding)، الذي كان أحد أعمدة صحيفة “التايمز” اللندنية وقناة “بي بي سي”. وقد قامت هذه الشركة بدراسة إحصائية حول الذكاء الاصطناعي في العالم ومدى تقدُّمه، وذلك بالاستعانة بنحو ثلاثين خبيرا عالميا من مختلف القطاعات: الصناعية، الأكاديمية، الحكومية، الإعلامية… يقدّم كل منهم رأيه في راهن الذكاء الاصطناعي والتحديات التي يطرحها في شتى المجالات.
وقد تُوِّجَت الدراسة بإصدار ما سمي بـ”المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي” الذي يستعرض وضع هذا العلم في 62 دولة في العالم شملتهم هذه الدراسة. وهكذا تمّ تفحّص القوى التي تسرِّع التطور الحاصل في الذكاء الاصطناعي من خلال تحليل قُدرات الاستثمار والابتكار وتنفيذ المشاريع في هذا المجال. ويرتكز هذا المؤشر على 143 معيارا فرعيا موزَّعة على سبعة معايير رئيسية هي: مدى توفر المواهب في البلاد، وبنيتها التحتية، وبيئة التشغيل فيها، والبحث العلمي، والتنمية، والإستراتيجية الحكومية، والسوق التجارية.
والمقصود هنا بالمواهب هو توفّر الباحثين والمهندسين المهرة القادرين على تقديم حلول للمشاكل المطروحة في مختلف القطاعات باستخدام الذكاء الاصطناعي، أما معيار “البنية التحتية” فيقيس حجم المرافق التي تسمح بالوصول إلى الكهرباء والإنترنت والمعلوماتية المتقدمة، كما أن الجانب التجاري يركز على مستوى الاستثمار والمبادرات التجارية القائمة على الذكاء الاصطناعي.
يذكر موقع مؤسسة “تورتويز ميديا” أنه منذ عام 2017، أعلنت ما لا يقلّ عن 30 دولة عن وجود “إستراتيجية حكومية” خاصة بالذكاء الاصطناعي، وهذا دليلٌ على الاهتمام الحكومي المتزايد عبر العالم بباب استخدام الذكاء الاصطناعي.
السعودية تتصدر الدول العربية
احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى (من بين 62 دولة) في التصنيف الإجمالي الذي يراعي المعايير الـ143 الخاصة بقياس مدى تقدُّم الذكاء الاصطناعي في كل بلد. وفي المرتبة الثانية، نجد الصين متبوعة ببريطانيا ثم كندا. وقد حافظت هذه الدول الأربع على مراتبها التي احتلتها في تصنيف عام 2019. وكانت الدولة الأخيرة في هذه القائمة هي نيجيريا.
وليس من المستغرب أن تهيمن الولايات المتحدة على التصنيف العالمي، متقدمة على الصين وبريطانيا، نظرا لما يتوفّر على ترابها من مواهب علمية وبنية تحتية: هناك 34 جامعة أمريكية مصنفة ضمن أفضل 100 جامعة في العالم في مجال المعلوماتية. كما نلاحظ أنه نُشر عام 2019 في العالم 27 ألف بحث في الذكاء الاصطناعي، حصة الأسد منها كانت للولايات المتحدة.
والجدير بالملاحظة أن الجزائر غائبة في هذا التصنيف، بينما تظهر في القائمة 6 بلدان عربية تتصدرها السعودية في المرتبة 22، علما أنها حققت قفزة لافتة في تصنيف هذه السنة إذ كانت تحتل المرتبة 29 عام 2019. وتأتي بعد السعودية الإمارات (المرتبة 36)، ثم البحرين (50)، وتونس (53)، ومصر (58)، والمغرب (59).
وعلى كل حال، يثير الترتيب الذي تقدمه مؤسسة “تورتوز ميديا” الاهتمام لأنه يكشف الفجوة بين تلك البلدان، وهذا أكثر دلالة من مجرد مواقعها في التصنيف. وفي هذا السياق، نلاحظ من خلال الدراسة أن الولايات المتحدة تتقدم بفارق كبير على البلدان الأخرى، وأنها الأولى من حيث عدد المواهب ومتانة البنية التحتية. ومع ذلك، فهي في المرتبة 13 من حيث معيار وجود “إستراتيجية حكومية” للذكاء الاصطناعي!
نشير إلى أن هذا المعيار بالذات سيكون بالغ الأهمية على المدى المتوسط والطويل، لأنه سيسمح بتقليص الفجوة بين الولايات المتحدة والصين بسرعة فائقة؛ فالصين تمثِّل الدولة الأسرع تقدُّمًا في هذا المجال عبر العالم. ولذلك فكل التوقعات تشير إلى أن الصين ستتصدر بلدان العالم في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. فمتى سنحذو في هذا المجال حذو السعودية والصين؟!