
العلماء يدربون الذكاء الاصطناعي لمحاكاة التفكير البشري
AI بالعربي – متابعات
في عالم الذكاء الاصطناعي المتطور باستمرار، يشهد عالمنا تحولاً مذهلًا لا يهدف فقط إلى تسليط الضوء على كيفية تفكير الآلات، بل أيضًا على كيفية محاكاة عمليات تفكيرها لآليات عمل العقل البشري، بل وحتى توضيحها.
وقد خطت الأبحاث الحديثة التي قادها علماء الإدراك خطوة جريئة في هذا الاتجاه؛ فمن خلال تدريب نموذج لغوي ضخم وقوي على مجموعة من 10 ملايين سؤال مستمدة من تجارب علم النفس، بنى هؤلاء العلماء محاكاة رقمية تحاول التفكير، والخطأ، والتأمل تماماً كما يفعل الإنسان.
سيناريوهات نفسية.. الذاكرة والمعضلات الأخلاقية
ولا يمثل هذا المسعى مجرد تمرين في البراعة الحوسبية، بل إنه نافذة على فهم متاهة الإدراك. فمن خلال كشف الذكاء الاصطناعي على هذه المجموعة الواسعة والمعقدة من السيناريوهات النفسية – بدءاً من اختبارات الذاكرة، ومهام التعرف على الأنماط، وصولاً إلى المعضلات الأخلاقية، وألغاز المخاطرة والمكافأة – يهدف الباحثون إلى بناء عقل اصطناعي لا يُكرر المعلومات فحسب، بل يكشف عن أنماط التفكير، والتحيّز، واتخاذ القرارات التي تُذكّرنا بأنماطنا نحن.
الذكاء البشري.. خصائص وعيوب
يتمحور جوهر هذه الدراسة حول الاعتراف بأن الذكاء البشري لا يُعرّف بنقاط قوته فحسب، بل بخصائصه وعيوبه – “عيوبنا” المعرفية، كما وصفها الباحثون.
ولكل عقل بشري غرائبه: الميل إلى اختيار “اليقين” بدلاً من “المخاطرة”، والاعتماد على الحدس حتى في مواجهة المنطق البارد، والتأثر بالسياق والعاطفة. ولطالما كانت هذه الغرائب موضوعاً للبحث النفسي، حيث حللتها نظريات تسعى إلى تفسير سبب تذكرنا لبعض الأشياء ونسياننا لأخرى، ولماذا نتمسك بعادات أو نقع فريسة للإغراءات، ولماذا نتخذ أحياناً خيارات تبدو غير عقلانية عند النظر إليها لاحقاً. ومع ذلك، فإن هذه النظريات، على الرغم من أناقتها، قد تم اختبارها تقليدياً بمعزل عن بعضها.
نماذج متنوعة للعقل البشري
وقد أنتجت العلوم المعرفية مجموعة متنوعة من النماذج، كل منها مصمم خصيصاً لشريحة معينة من العقل: قد يفسر أحدها الذاكرة، وقد يفسر آخر عملية اتخاذ القرار، وقد يفسر ثالث تكوين العادات. إلا أن ما بقي بعيد المنال هو نموذج موحد، “نظرية لكل شيء” للعقل، يمكن أن يفسر التفاعل بين هذه القدرات.
نموذج شمولي للعقل يخلقه الذكاء الاصطناعي
وهنا يدخل الذكاء الاصطناعي إلى المشهد بطريقة مبتكرة حقاً. تساءل العلماء وراء هذا البحث الجديد: هل يمكن للذكاء الاصطناعي، المجهز بمجموعة واسعة من التجارب النفسية البشرية، أن يطور نموذجاً شمولياً للعقل – نموذجاً لا يعكس القدرات المعزولة فحسب، بل يعكس أيضاً النسيج الفوضوي والمترابط للإدراك الحقيقي؟
بدأ المشروع بجدية قبل ثلاث سنوات عندما لاحظ مارسيل بينز، عالم الإدراك في مؤسسة “هيلمهولتز ميونيخ” العلمية، شيئاً رائعاً حول أحدث جيل من نماذج اللغة الذكية مثل “جي بي تي”. فبخلاف أنظمة الذكاء الاصطناعي السابقة، التي اقتصرت على خبرة محدودة – أساتذة شطرنج كبار، لكنهم جاهلون بمجالاتهم – أظهرت هذه النماذج الجديدة ما سمّاه بينز “الشمولية شبه البشرية”، إذ يمكن سؤالها عن أي شيء، وستُنتج إجابات، وإن كانت معيبة أحياناً، تحمل صدى للمنطق البشري.
إعادة تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي
ومع ذلك، بقيت عقبة واحدة: الوصول إلى لبّ الأدوات الذكية. فقد كانت الشيفرة البرمجية لهذه الأنظمة المذهلة محمية بشدة من قِبل الشركات. إلا أن هذا تغير في عام 2023 عندما أصدرت شركة “ميتا” برنامج LLaMA مفتوح المصدر – وهو اختصار لـ “Large Language Model Meta AI”. وفجأة، أصبح بإمكان الباحثين ليس فقط إعادة ضبط الشيفرة البرمجية، بل أيضاً إعادة توظيفها لأغراضهم العلمية الخاصة.
تجربة جريئة
اغتناماً لهذه الفرصة، شرع بينز وفريقه في تجربة جريئة. أعادوا تدريب LLaMA، مُغذّين إياه بنتائج وهياكل ملايين التجارب النفسية. لم يكن هدفهم إنشاء ذكاء خارق خالٍ من العيوب، بل ذكاء اصطناعي قادر على محاكاة كامل طيف الفكر البشري – بما في ذلك نقاط ضعفه وتحيّزاته. أطلقوا على هذا النظام اسم “Centaur”، تيمّناً بالهجين الأسطوري، مُجسّدين طبيعته المزدوجة كآلة وانعكاس للنفس البشرية. (القنطور – بالإغريقية “kéntauros”، مخلوق أسطوري إغريقي نصفه العلوي بشري والنصف السفلي لحصان).
نظام هجين.. الالتقاء والاختلاف
إنّ تداعيات هذا العمل عميقة. فمن خلال مراقبة استجابات “القنطور” لنفس الأسئلة المطروحة على البشر، لا يُمكن للباحثين اكتشاف مواطن التقاء العقول الاصطناعية والبشرية فحسب، بل أيضاً مواطن اختلافها – والأهم من ذلك، أسباب ذلك. في بعض الحالات، قد يُعزز “القنطور” نظريات الإدراك القائمة؛ وفي حالات أخرى، قد تُشكّك أخطاؤه وإجاباته غير المتوقعة في الافتراضات الراسخة أو تقترح سبلاً جديدة للبحث النفسي.
ويَعِدُ هذا النهج بتعميق فهمنا للإدراك البشري بطرق لم تكن مُتصوّرة من قبل. فبدلاً من مجرد حصر خصائص العقل، يُمكن للعلماء الآن دراسة أصولها وتفاعلاتها وعواقبها ضمن إطار موحد. يمكنهم، على سبيل المثال، التساؤل عن كيفية تأثير قيود الذاكرة على عملية اتخاذ القرار، أو كيف يُغير السياق العاطفي تقييم المخاطر – كل ذلك ضمن نموذج واحد شديد المرونة.
وتبدو الفوائد العلمية المحتملة واضحة. إذ إن دمج علم النفس بالذكاء الاصطناعي يُحدث نقلة نوعية في كلا المجالين، مُقدماً صورة أغنى وأكثر دقة لمعنى التفكير والتكيّف، وفي النهاية، معنى أن تكون إنساناً.