مع ارتفاع معدلات الانتحار بين المراهقين في الولايات المتحدة، والتي أصبحت السبب الثاني للوفاة في هذه المرحلة العمرية بعد الحوادث أو الإصابات غير المتعمدة، كان لا بد للبحث العلمي من رصد هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها؛ حتى يتم التصدي لها.

وفي هذا السياق، قام فريق بحثي من جامعة “جونز هوبكنز” في بالتيمور بولاية ماريلاند الأمريكية بتطوير خوارزمية جديدة تعتمد على التعلم الآلي، يمكنها تحديد المراهقين الذين مروا بأفكار أو سلوكيات انتحارية بدقة عالية، وقد عُرضت نتائج الدراسة في دورية “بلوس وان” (PLOS ONE).

وكان البحث العلمي على مدى عقود قد حدد عوامل خطر محددة مرتبطة بالأفكار والسلوكيات الانتحارية بين المراهقين للمساعدة في جهود منع الانتحار، غير أن قليلًا من الدراسات اكتشف ارتباط عوامل الخطر بعضها ببعض، وخاصةً في المجموعات الكبيرة التي تضم المراهقين، وقد فتح مجال التعلم الآلي آفاقًا جديدةً في هذا النوع من البحث العلمي، ليُسهم في نهاية المطاف في تحسين جهود منع هذه الظاهرة.

ويعتمد التعلم الآلي على تحليل البيانات من خلال بناء النموذج التحليلي بشكل تلقائي، وهو أحد فروع الذكاء الاصطناعي القائمة على فكرة أن الأنظمة يمكنها التعلم من البيانات وتحديد الأنماط واتخاذ القرارات بأقل تدخل بشري.

وللاستفادة من هذه التقنية، قام “أوريون ويللر” -الباحث المساعد في قسم معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي بجامعة “جون هوبكنز”- وزملاؤه بتطبيق تحليل التعلم الآلي على بيانات دراسة استقصائية أُجريت على طلاب المرحلة الثانوية في ولاية “يوتا” الواقعة غرب الولايات المتحدة.

تتم تلك الدراسة الاستقصائية بشكل روتيني لرصد بعض الظواهر مثل تعاطي المخدرات والصحة العقلية، وتضمنت البيانات إجابات 179 ألفًا و384 طالبًا في المرحلة الثانوية عن أكثر من 300 سؤال، وذلك في الفترة ما بين 2011 وحتى 2017، بالإضافة إلى البيانات الديموجرافية من التعداد السكاني في الولايات المتحدة.

اكتشف الباحثون إمكانية استخدام بيانات الدراسة الاستقصائية للتنبؤ بدقة بلغت 91% عما تمثله إجابات المراهقين كل على حدة من ميول انتحارية، وكذلك أي الأسئلة المطروحة تكون أكثر قابليةً للتنبؤ.

واشتملت هذه الأسئلة على التعرُّض لمضايقات أو تهديدات الوسائط الرقمية، والتنمر في المدرسة، والجدال الحاد في المنزل، والجنس، وتعاطي الكحول، ومشاعر الأمان في المدرسة، والعمر، والمواقف تجاه الماريجوانا.

وقد ثبت أن دقة الخورازمية الجديدة أعلى من طرق التنبؤ السابقة، ما يشير الى إمكانية اللجوء إليها لتحسين فهم الأفكار والسلوكيات المرتبطة بانتحار المراهقين، وبالتالي تصميم برامج وسياسات وقائية.

يقول “ويللر” في تصريحات لـ”للعلم”: تستخدم الخوارزمية الجديدة بشكل رئيسي تحليل “الانحدار الخطي”، وهو تحليل أكثر تعقيدًا من الأساليب السابقة، ويمكنه الربط بين الأسئلة المختلفة، وهو أمرٌ حيوي في مجموعة البيانات المستخدمة التي تحتوي على عدد كبير من الأسئلة، وهو ما جعل هذه الخوارزمية أكثر دقةً في التنبؤ.

ويتم استخدام تحليل “الانحدار الخطي” في التنبؤ بقيمة المتغير بناءً على قيمة متغير آخر، ويسمى المتغير الذي نريد التنبؤ به “المتغير التابع”، أما المتغير الذي يتم استخدامه للتنبؤ بقيمة المتغير الآخر فيسمى “المتغير المستقل”.

يشير الباحثون، في البيان الصحفي المصاحب للدراسة، إلى أن “الورقة البحثية تتناول مناهج التعلم الآلي المطبقة على مجموعة بيانات كبيرة من استبانات المراهقين، من أجل التنبؤ بالأفكار والسلوكيات الانتحارية من خلال إجاباتهم عن الأسئلة”، وأنهم “نجحوا في تحديد المعرضين للخطر بدقة كبيرة، وقاموا بتحليل النموذج المستخدم بما يتوافق مع التطور الحديث في مجال التعلم الآلي”.

ووجد الباحثون أن “العوامل التي تؤثر بقوة في هذا النموذج تتضمن التعرض للتنمر والتحرش كما هو متوقع، بالإضافة إلى جوانب من الحياة العائلية مثل الوجود في عائلة تتسم بالصراخ أو الجدال الحاد، ونأمل أن تقدم هذه الدراسة رؤيةً واضحةً للتعريف بجهود الوقاية المبكرة”.

ووفق النتائج، فإن “الفتيات المراهقات يكن أكثر تعرضًا من نظرائهن الذكور للمرور بتجربة الأفكار والسلوكيات الانتحارية، كما أن المراهقين الذين افتقدوا وجود الأب في المنزل كانوا أكثر تعرضًا بنسبة 72.6% للمرور بمثل هذه الميول، مقارنةً بأولئك الذين نشأوا في منزل يمارس فيه الأب دوره بصورة نشطة”.

يقول “كارل هانسون” -أستاذ الصحة العامة بجامعة “بريجهام يونج” الأمريكية، والمشرف على الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: الانتحار هو السبب الرئيسي لوفاة الشباب صغير السن في ولاية “يوتا”؛ إذ يبلغ متوسط حالات الانتحار سنويًّا 660 حالة، أما على المستوى القومي، فينتحر 50 شخصًا من كل 100 ألف مراهق سنويًّا في الولايات المتحدة، ويتصاعد عدد المستجيبين للأفكار والسلوكيات الانتحارية عامًا بعد الآخر، فقد كانت نسبة المنتحرين 10.7% في عام 2011، و13.6% في 2013، و15.6% في 2015، ثم 16% عام 2017، ويمكن للدراسات المستقبلية أن تتوسع في النتائج باستخدام البيانات الخاصة من ولايات أخرى، وكذلك أي معلومات عن معدلات الانتحار الحالية.

وعلى الصعيد العالمي، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2019 إلى أن أكثر من 700 ألف شخص حول العالم لقوا حتفهم انتحارًا، أي ما يعادل وفاةً واحدةً من كل 100 وفاة، وأن الانتحار يأتي في المرتبة الرابعة من الأسباب المؤدية إلى الوفاة لدى فئة الشباب بين عمر 15 إلى 29 عامًا، بعد حوادث الطرق والسل والعنف بين الأشخاص، ويزيد عدد الذكور الذين يلقون حتفهم بسبب الانتحار بأكثر من مرتين على عدد الإناث (12.6 من كل 100 ألف ذكر مقارنةً بـ5.4 من كل 100 ألف أنثى).

يضيف “هانسون”: ما يحدث في المدرسة والبيت وعلى شبكات التواصل الاجتماعي يحفز الأفكار والسلوكيات الانتحارية بين الشباب صغير السن، ولا بد من استجابة قوية من قِبل المدارس والمجتمع لمشكلات التحرش الإلكتروني والتنمر في المدارس، فهما الأكثر ارتباطًا بفكرة الانتحار، كذلك يحتاج الأمر الى جهود مجتمعية لتوعية العائلات بخطورة تأثير الجدال الحاد والسباب والتعنيف على المراهقين، ما يدفعهم إلى الأفكار والسلوكيات الانتحارية.