الذكاء الاصطناعي.. بين الأخلاقيات والخيال والواقع واليد التي تبصر
AI بالعربي – متابعات
قبل ستة أعوام، أصدرت مجلة رسالة اليونيسكو الإلكترونية، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، عددها المعنون بـ “الذكاء الاصطناعي: وعود وتهديدات”. تصدرت عناوين المقالات في هذا العدد ثلاث مقالات رئيسية، حيث حملت المقالة الأولى عنوان “أخلاقيات البحث في الذكاء الاصطناعي”. بينما جاء العنوان الثاني تحت شعار يتأرجح بين الحقيقي وغير الحقيقي، وهو “الذكاء الاصطناعي بين الأسطورة والواقع”، حيث استعرضت مراحل رئيسة في هذا المجال الذي بدأ حينها يجذب الانتباه بشكل متزايد، خاصة بين غير المختصين.
أما المقال الثالث، فحمل عنوان “اليد التي تبصر”، حيث استعرضت فيه قدرة الآلات والتقنيات الذكية على القراءة والتفكير بسرعات وقدرات مذهلة. وقدمت رؤية علمية توضح كيف تفتح هذه التقنيات آفاقًا جديدة للأشخاص الذين كانت الإعاقة تشكل حاجزًا أمامهم، مما يمكنهم من أداء العديد من المهام بشكل فعال.
تحولات غير مسبوقة
العدد الذي صدر في عام 2018 ناقش في مقاله الافتتاحي، المعنون “من أجل أخلاقيات البحث في الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي”، التطورات المذهلة التي حققها الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة، وما أحدثته من تحولات غير مسبوقة في مختلف المجالات، مما أثار إعجابًا وقلقًا في الوقت نفسه. فقد وصلت الآلات والحواسيب إلى مستوى جديد من الكفاءة، حيث أصبحت قادرة على التعلم وتحسين أدائها استنادًا إلى البيانات المتاحة، بفضل خوارزميات متطورة تتيح لها اتخاذ قرارات شبه مستقلة. ومع ذلك، تثير هذه القدرات المتقدمة العديد من التساؤلات الأخلاقية، مثل: هل يمكن للآلة أن تمتلك ضميرًا؟ وهل نملك حقًا السيطرة الكاملة على الذكاء الاصطناعي لضمان توجيهه نحو استخدامات آمنة ومفيدة؟
الذكاء الاصطناعي، رغم تقدمه، ما زال يخضع لأعمال مبرمجة ومحددة، وهو غير قادر على التفكير الذاتي أو تكوين علاقات اجتماعية حقيقية خارج نطاق تصميمه. ومع ذلك، فإن استخداماته المتعددة، من تجميع البيانات إلى الأسلحة المستقلة، تثير مشكلات أخلاقية شائكة تتعلق بالخصوصية والتحيز والسلامة. وتتسارع الأبحاث في هذا المجال بشكل لافت، إلا أن الجوانب الأخلاقية تبقى مثار قلق عميق. وتحاول منظمات دولية مثل اليونيسكو الدفع نحو إطار قانوني وأخلاقي عالمي لضبط معايير الذكاء الاصطناعي وتحقيق توازن مسؤول بين الابتكار واحترام القيم الإنسانية.
اختُتِمَ المقال بالتأكيد على ضرورة مواجهة هذا العصر الجديد بعينٍ يقظة، مع الاستناد إلى مبادئ مشتركة تحافظ على الحقوق وتراعي الأخلاقيات. إن تحقيق توازن عادل بين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي والحفاظ على القيم الأخلاقية يتطلب حوارًا عالميًا منظمًا وواعيًا، يُثريه الالتزام بالمسؤولية المشتركة تجاه الأجيال القادمة.
النهضة التي سار نحوها الذكاء الاصطناعي
في إطار العدد الصادر في صيف ذلك العام بين يوليو وسبتمبر، أشار محرر مجلة الرسالة إلى جانب من النهضة الواعدة للذكاء الاصطناعي، حيث ركز على تقنية ضخمة تعتمد على استغلال البيانات الضخمة وتقنيات التعلم العميق. أدى هذا إلى تطوير نظم قادرة على التعرف على الأنماط وفهم اللغة الطبيعية، بل وحتى قيادة السيارات. بفضل الشبكات العصبية الاصطناعية والتقدم في بنية الحواسيب، شهد الذكاء الاصطناعي تطورًا غير مسبوق، مما مكّنه من تحقيق اختراقات مهمة في مجالات متعددة، مثل التعرف على الصور، وتحسين وسائل التشخيص الطبي، وتطوير الروبوتات القادرة على التفاعل بطريقة تحاكي البشر. أسهمت هذه التقنيات في جعل الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، حيث تزايدت التطبيقات المبتكرة مثل مساعدات الصوت الذكية، وتقنيات الأمان البيومتري، والأنظمة الذكية في شتى المجالات، مما جعل الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًا للتقدم الرقمي اليوم.
مع ذلك، جاءت هذه النهضة بآثار جانبية عديدة تثير مخاوف متزايدة بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على المستقبل البشري. فبعض الباحثين والمفكرين، مثل ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك، حذروا من استخدام هذه التقنيات دون رقابة دقيقة على تطبيقاتها الأخلاقية، وضرورة وضع حدود واضحة لحماية الخصوصية ومنع الانتهاكات المحتملة. إذ إن تطوير الآلات الذكية القادرة على اتخاذ قرارات بمفردها يثير تساؤلات جوهرية حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تجاوز الإطار الأخلاقي التقليدي، ومخاوف بشأن إمكانية أن تصبح هذه الآلات منافسة للبشر في بعض المهام الحساسة، مما يتطلب استحداث أطر قانونية تواكب هذا التقدم لضمان مستقبل آمن ومستدام للتقنية الذكية.
مقال “الذكاء الاصطناعي بين الأسطورة والواقع” تناول النهضة الكبيرة التي شهدها الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة، حيث تم تطوير أنظمة معقدة للمحاكاة، مثل مشروع “الدماغ الأزرق” الذي يهدف إلى فهم وتشغيل الدماغ البشري بشكل أفضل. أتاحت هذه التكنولوجيا للعلماء استخدام المحاكاة الرقمية لاستكشاف وظائف الجزيئات الحيوية ومعالجة البيانات الضخمة بطرق متقدمة، مثل نظم السيليكون. من خلال هذه الأنظمة، يمكن استبدال العديد من التجارب التقليدية بتجارب “في بيئة افتراضية”، مما يسهل الدراسة والاكتشاف في مجالات حيوية متعددة.
مخاوف تمت إثارتها
حذّر المحرر في ختام المقال، برغم تلك التطورات، من مخاوف أخلاقية أُثيرت حول الآثار المحتملة للذكاء الاصطناعي على المجتمع، كتهديدات لفرص العمل، وتقويض حرية الفرد واستقلاليته. وتخشى بعض الأوساط أن تصبح الآلة قادرة على القيام بالعديد من المهام بدلاً من الإنسان، مما قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في شكل القوى العاملة. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن الذكاء الاصطناعي سيخلق وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة. يظل هذا الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته المتقدمة، محدودًا في اتخاذ القرارات المستقلة أخلاقيًا، مما يعزز من ضرورة المراقبة واليقظة في توظيف هذه التكنولوجيا.
اليد التي تبصر
في المقال الثالث “اليد التي تبصر”، الذي جاء في مقدمة المقالات الرئيسية في ذلك العدد، تم الحديث عن ابتكار مذهل لمهندس بيولوجي طور يدًا إلكترونية حدسية قادرة على استشعار الأشياء والإمساك بها بفضل كاميرا مدمجة تُقيّم شكلها وحجمها. تتيح هذه اليد حركة آلية سلسة دون الحاجة إلى تحكم ذهني. يصف نزاربور هذا الاختراع، الذي نال جائزة “نت إكسبلو” للابتكار عام 2018، كإنجاز من شأنه تغيير حياة فاقدي الأطراف العليا، حيث تسمح اليد الجديدة بحركة مشابهة للطبيعية من خلال اختيار “قبضة” مناسبة لالتقاط مختلف الأشياء بدقة وسرعة.
في رأي المهندس الذي يُدعى كيانوش نزاربور، أنَّ هذه اليد الإلكترونية من شأنها أن تمثِّل حلاً فريدًا للتحديات التي واجهتها الأطراف الاصطناعية التقليدية، والتي كانت تتطلب رؤية وتحكمًا دقيقًا من المستخدم لتحريك الطرف الصناعي. هذه اليد الجديدة تتفوق بقدرتها على اختيار الحركة المناسبة عبر الذكاء الاصطناعي، مما يعزز استقلالية فاقدي الأطراف ويوفر لهم تجربة قريبة من حركة اليد الطبيعية، كما أنها تقدم حلولًا عملية واقتصادية قد تُحدث طفرة في صناعة الأطراف الصناعية عالميًا.
ختامًا، لا يزال الذكاء الاصطناعي يقع في منطقة وسط بين التفاؤل بمستقبله والتهديدات التي تظهر بين الحين والآخر، حيث تعبر الأقلام عما يدور في عقول المختصين بين منفتح ومتخوِّف. ومع ذلك، فإن الأنظمة قد وصلت اليوم إلى مستوى عالٍ من الأهمية، حيث تُعقد المنتديات والمؤتمرات لتثمين الجهود المبذولة من أجل مستقبله. وما زالت الوعود قائمة، بينما يستمر ذكر المخاطر والتحديات في مجالات البحث.