الرأي المصنّع.. من يقف وراء الحسابات التي تصنع الاتجاهات على وسائل التواصل؟
الرأي المصنّع.. من يقف وراء الحسابات التي تصنع الاتجاهات على وسائل التواصل؟
AI بالعربي – خاص
في بيئة رقمية تُقاس فيها شرعية الآراء بعدد الإعجابات وإعادة النشر، يطفو إلى السطح سؤال بالغ الأهمية: من يصنع الاتجاهات فعلًا؟ وهل الآراء المنتشرة على وسائل التواصل هي تعبير تلقائي عن وعي جماعي، أم نتيجة لهندسة خفية تقودها حسابات تُدار بذكاء ومكر؟ هنا يظهر مفهوم “الرأي المصنّع”، حيث لا يُترك الرأي العام للصدفة، بل يُصاغ ويُعاد توجيهه وفق أهداف ومصالح محددة.
تعتمد هذه الممارسة على شبكات منظمة من الحسابات التي تبدو للوهلة الأولى حقيقية، لكنها في الواقع تُدار مركزيًا أو من قبل كيانات خفية. تبدأ هذه الحسابات بنشر محتوى محدد، ثم تتولى التفاعل المتبادل فيما بينها، ما يمنح المنشور زخمًا وهميًا يدفع بالخوارزميات إلى رفعه في الترتيب، وبالتالي توسيع انتشاره أمام جمهور حقيقي يتعامل معه على أنه “رأي سائد”.
وتستغل هذه المنظومة الطبيعة الديناميكية لمنصات التواصل، حيث لا يُطلب من المستخدم التفكير أو التحقق، بل يُغرى بالموافقة أو الرفض بناءً على حجم التفاعل لا على مضمون الرسالة. وهكذا يتحول الرأي المصنّع إلى مرآة مزيّفة تعكس ما صُمم أن يبدو شائعًا، لا ما نشأ عضويًا من نقاش جماهيري حقيقي.
أشارت تقارير تحليلية إلى أن نسبة عالية من الاتجاهات الرائجة على بعض المنصات تُدفع بتقنيات “التحشيد الرقمي”، التي تعتمد على آلاف الحسابات المزيفة أو المؤتمتة (Bots)، بالإضافة إلى حسابات حقيقية مأجورة، تُعرف أحيانًا بـ “المرتزقة الرقميين”، تتولى تأطير النقاش وتوجيهه نحو أهداف محددة.
وتزداد خطورة هذه الظاهرة حين تُستخدم لتوجيه الرأي العام في قضايا سياسية أو اجتماعية حساسة، أو للتأثير على الحملات الانتخابية، أو حتى لضرب سمعة أفراد ومؤسسات. فبينما يظن المستخدم أنه يُشارك في نقاش مفتوح، يكون قد دخل في مشهد مُعد مسبقًا، يديره “مخرجون” غير ظاهرين.
في هذا السياق، يفقد الجمهور القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصمَّم. ومع تكرار الرسائل واتساع نطاق تداولها، تصبح الأكاذيب قابلة للتصديق، وتُكتسب الآراء المصنّعة شرعية مزيفة مصدرها الأرقام لا الحقيقة. وتدفع هذه الحالة نحو تآكل الثقة العامة في منصات التواصل كمساحات للحوار الحر، وتغذية الشك المستمر بكل ما يُقال أو يُكتب.
ومع صعود الذكاء الاصطناعي، ازدادت قدرة هذه الحملات على التلاعب، من خلال توليد محتوى آلي مُقنع، وإنشاء هويات رقمية متقنة يصعب كشف زيفها، واستخدام التحليل السلوكي لتحديد أنسب توقيتات النشر والتفاعل. وهكذا يتحول المجال العام الرقمي إلى ساحة تدار بالخوارزميات لا بالعقول.
في مواجهة هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى وعي نقدي جديد، لا يكتفي بالنظر إلى ما يتصدر الشاشات، بل يُسائل كيف ولماذا وصل إلى هناك. فالرأي الحر لا يُقاس بحجمه، بل بنزاهة سياقه. ومن دون أدوات تحقق قوية، وتعليم رقمي جاد، سيظل الرأي المصنّع يفرض سطوته في الفضاء العام دون مقاومة حقيقية.
اقرأ أيضًا: المراهق الرقمي.. جيل يتكوّن وجدانيًا من خلال خوارزميات التوصية