الوثائقيات المصطنعة.. هل تفقد الحقيقة قيمتها حين يصنعها الذكاء؟
الوثائقيات المصطنعة.. هل تفقد الحقيقة قيمتها حين يصنعها الذكاء؟
AI بالعربي – خاص
لطالما كانت الأفلام الوثائقية مرآة الواقع، وسردية الحقيقة، ومنصة للغوص في الأحداث والوقائع بأعين إنسانية راصدة. لكنها اليوم تدخل مرحلة جديدة تُثير أسئلة وجودية: ماذا يحدث عندما يُنتج الذكاء الاصطناعي فيلمًا وثائقيًا كاملًا؟ هل تظل الحقيقة كما هي؟ أم تتحول إلى “واقع بديل” مُركّب بعناية من بيانات وصور ومقاطع لا أصل لها في العالم؟
مع تطور تقنيات التوليد التلقائي، بات بإمكان الذكاء الاصطناعي إنتاج نصوص، صور، أصوات، وحتى لقطات مرئية تحاكي الواقع بدقة، ما يسمح له بصناعة وثائقيات كاملة — من النص إلى الصوت إلى الصورة — دون تدخل بشري مباشر. وهذه القدرة غير المسبوقة تعيد تعريف معنى التوثيق، وحدود الحياد، ومكانة الشهادة الإنسانية.
في هذا النموذج الجديد، لم تعد الحقيقة مسألة تحقق أو توثيق ميداني، بل صارت مشروع توليد منطقي، تغذيه قواعد بيانات ضخمة وخوارزميات تحليل أنماط. يمكن مثلًا إنتاج فيلم عن كارثة بيئية لم توثقها الكاميرات، أو إعادة تمثيل لحظة تاريخية مفقودة بصريًا، لكن السؤال يبقى: هل ما نراه هو الحقيقة؟ أم تمثيل مقنع لها لا يحمل وزن المصدر الأصلي؟
يُحذّر نقاد الإعلام من أن الوثائقيات المصطنعة — رغم جمالها البصري وسلاستها السردية — قد تسهم في تآكل المعايير التحريرية، وتسطيح المفاهيم الأخلاقية المتعلقة بالصدق والسياق. إذ أن الإغراء الكبير بملء “الثغرات البصرية” قد يدفع المنتجين إلى إعادة بناء التاريخ بطريقة ترضي الخيال أكثر من الواقع، وتؤثر في المتلقي دون أن تمنحه فرصة التمييز بين الحقيقي والمصطنع.
في عام 2024، أثار فيلم وثائقي مولّد بالكامل عن الحرب الباردة جدلًا واسعًا، بعد أن تبين أن بعض الصور المستخدمة فيه كانت صورًا تخيلية مولّدة ولم تكن موثقة تاريخيًا، رغم أن التعليق الصوتي لم يوضح ذلك. هذا النموذج بدأ يُعرف باسم “الوثائقيات التركيبية”، وهو مزيج من الحقيقة والافتراض، قد يُشبه الخيال العلمي، لكنه يُقدَّم بلباس الوثائقي التقليدي.
تكمن الخطورة في أن الوثائقي ليس مجرد وسيلة لعرض المعلومات، بل أداة تشكيل للوعي العام. وعندما تُصبح هذه الأداة قابلة للتصميم الحر، دون قيود المصدر أو الشهادة، فإنها تفتح المجال أمام سرديات مُفبركة يُمكن أن تؤثر على الرأي العام، أو تُستخدم لأغراض دعائية تحت غطاء “الحقيقة”.
لكن في المقابل، يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يكون حليفًا للحقيقة، إذا استُخدم بوعي أخلاقي صارم. فهو قادر على استعادة مشاهد لم تُوثق، وتبسيط مفاهيم معقدة، وإنتاج محتوى تعليمي متماسك، بشرط أن تُوضع علامات واضحة تفصل بين ما هو واقعي، وما هو توليدي، وما هو افتراضي.
المسألة هنا ليست في الأداة، بل في الشفافية. فإذا عُرّف المشاهد أن ما يراه هو إعادة تخيلية أو توليد افتراضي، فإن التلقي يبقى سليمًا. أما إذا اختلطت الحدود، فإن الوثائقي يتحول من أداة توثيق إلى وسيلة لصناعة روايات زائفة يصعب نفيها لاحقًا.
ومع تزايد اعتماد المنصات على هذه التقنية لخفض التكاليف وتسريع الإنتاج، يبدو أن “الوثائقيات المصطنعة” ليست مستقبلًا بعيدًا، بل واقعًا آخذًا في الترسخ. فهل ستنجح الحقيقة في الحفاظ على قيمتها وسط زخم الاصطناع؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيعيد تعريف معنى “ما حدث”؟
اقرأ أيضًا: الإنسان الفائق.. عندما تندمج قدرات البشر والتقنية في كيان واحد